أربع مباريات مرتقبة في الأسبوع الثاني من بطولة بيسان    اللجان الدستورية والخارجية والإعلام في مجلس النواب تعقد اجتماعات مع الجانب الحكومي    مسيرات ووقفات طلابية في إب تضامناً ونصرةً لغزة    هكذا غادرت حاملة الطائرات "فينسون" البحر الاحمر    الشرفي يبحث مع مكتب المبعوث الأممي المستجدات السياسية والاقتصادية وجهود دعم الاستقرار    هيئة الآثار تنشر قائمة جديدة بالآثار اليمنية المنهوبة    تعز .. ضغوط لرفع إضراب القضاة وعدم محاسبة العسكر    السامعي من صنعاء    صنعاء تفرض عقوبات على 64 شركة لانتهاك قرار الحظر البحري على "إسرائيل"    بسبب خلافات على الجبايات.. قيادي حوثي يقتحم صندوق النظافة في إب    موظفة في المواصفات والمقاييس توجه مناشدة لحمايتها من المضايقات على ذمة مناهضتها للفساد    عدن.. البنك المركزي يوقف ترخيص منشأة صرافة ويغلق مقرها    مشروع "المستشفى التعليمي لكلية طب عدن".. بين طموح الإنجاز ومحاولات الإفشال    إبليس العليمي يشعل الفتنة بين الحضارم.. انفجار سياسي قادم    انتقالي الضالع ينظم محاضرات توعوية لطلاب المخيم الصيفي بالمحافظة    فريق من مجلس المستشارين يطّلع على عمل مركز الطوارئ التوليدية وعدد من المراكز الصحية بأبين    اجتماع بالمواصفات يناقش تحضيرات تدشين فعاليات ذكرى المولد النبوي    الهيئة الإدارية للجمعية الوطنية تدعو لتشديد الرقابة على الأسواق    تقرير خاص : عودة الرئيس الزُبيدي إلى عدن تُحرّك المياه الراكدة: حراك سياسي واقتصادي لافت    التعليم العالي تعلن بدء تحويل مستحقات الطلاب المبتعثين في الخارج    في آخر أعماله القذرة.. معين عبدالملك يطلب من الهند حصر بيع القمح لهائل سعيد    حركة أمل: الحكومة اللبنانية تخالف بيانها الوزاري وجلسة الغد فرصة للتصحيح    همج العساكر يعربدون.. هل بقي شيء من عدن لم يُمسّ، لم يُسرق، لم يُدنس؟    الاتحاد الآسيوي يعلن موعد سحب قرعة التصفيات التأهيلية لكأس آسيا الناشئين    مجلس الوزراء يقر خطة إحياء ذكرى المولد النبوي للعام 1447ه    محافظ العاصمة عدن يتفقد ميناء الحاويات ويوجّه بالحفاظ عليه كمرفق سيادي واستراتيجي    وفاة امرأة وإصابة طفلة بصاعقة رعدية في الجميمة بحجة    ضمت 85 مشاركة.. دائرة المرأة في الإصلاح تختتم دورة "التفكير الاستراتيجي"    خبير في الطقس يتوقع موجة أمطار جديدة تشمل اغلب المحافظات اليمنية    زيدان يقترب من العودة للتدريب    اجتماع طارئ وقرارات مهمة لاتحاد السلة    تخرج 374 مستفيدًا ومستفيدة من مشروع التمكين الاقتصادي بمحافظتي تعز ولحج    رئيس هيئة مستشفى ذمار يعلن تجهيز 11 غرفة عمليات وعناية مركزة    ذا كرديل تكشف عن الحرب الإلكترونية الأميركية الإسرائيلية على اليمن    خبير نفطي يكشف معلومات جديدة عن ظهور الغاز في بني حشيش ويحذر    الأبجدية الحضرمية.. ديمومة الهوية    أما الدولة وسلطتها.. أو هائل سعيد وبلاطجته هم الدولة    مافيا "هائل سعيد".. ليسوا تجار بل هم لوبي سياسي قذر    كأس آسيا.. الأردن تكسب الهند والعراق يخسر أمام نيوزيلندا    لاعب برشلونة يوافق على تجديد عقده    هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُنتج نكاتا مضحكة؟    طيران اليمنية لا تعترف بالريال اليمني كعملة رسمية    رسميّا.. حرمان الهلال من سوبر 2026    أسبانيا تُفكك شبكة تهريب مهاجرين يمنيين إلى بريطانيا وكندا باستخدام جوازات مزوّرة    انتشال جثث 86 مهاجرًا وإنقاذ 42 في حادثة غرق قبالة سواحل أبين    لا تليق بها الفاصلة    حملة رقابية لضبط أسعار الأدوية في المنصورة بالعاصمة عدن    فعالية احتفالية بذكرى المولد النبوي بذمار    أيادي العسكر القذرة تطال سينما بلقيس بالهدم ليلا (صور)    ( ليلة أم مجدي وصاروخ فلسطين 2 مرعب اليهود )    الحديدة: فريق طبي يقوم بعمل معجزة لاعادة جمجمة تهشمت للحياة .. صور    رئيس الوزراء: الأدوية ليست رفاهية.. ووجهنا بتخفيض الأسعار وتعزيز الرقابة    تضهر على كتفك اعراض صامته..... اخطر انواع السرطان    رجل الدكان 10.. فضلًا؛ أعد لي طفولتي!!    الراحل عبده درويش.. قلم الثقافة يترجل    مرض الفشل الكلوي (15)    من أين لك هذا المال؟!    تساؤلات............ هل مانعيشه من علامات الساعه؟ وماذا اعددناء لها؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البنية الجمالية في شعر محمود درويش
نشر في الجمهورية يوم 03 - 05 - 2010

لقد كوّن محمود درويش عبر مسيرته الطويلة ذاكرة ثقافية هائلة. كانت ذاكرة أخرى للمخيلة، تستعيد المستقبل لتسترجع المجهول وتجاوِلُ الحدوس المغيَّبة للرؤيا. وقد ازدحمت تجربته فنيّاً بكينونة القلق وبمقامات الاحتمال، وبالدهاء المفتوح على الشك والأسئلة. إنه دائماً في أرقه، يعيش أشدّ حالات التجلي والخطف. إنه يبحث عن ذاته وكثيراً ما يختلف حتى مع هيئة شعرهِ. هل كان يقف بين الهدوء والحركة، ليكابد صمته، ويربكه، وفي غمرة العُلّو يلامس ذروة الأعماق؟
تستوقفني بجلال بديع تجربة درويش لأنها كانت تمثّل التجاوز المستمر والاستكشاف الذي يرى في التغيير تأسيساً آخر، ومفتتحاً لقراءات عدة تأخذ مستوياتها تبعاً لتعدد تأويل المتلّقي. ومن هنا كان الغموض عند درويش يحتاج إلى فهم كامل للعلاقات بين عناصر الصورة الشعرية والتناسق اللغوي والتشكيل السردي الباذخ الرقة والدقة والعذوبة، بمعنى أنّ محمود في غموضه كان يحقق الانزياح والزفاف الملكي بين المخيلة والتأويل بحيث يعطي النص أكثر من مدلول وشكل وإحالة.
لقد رأيت في محمود الرائي صورة السرّ والإفاقة والاستشراف والكشف عن الصدوع في الكينونة المعاصرة:
سأصير يوماً ما أريد
سأصير يوماً فكرة
لا سيف يحملها إلى الأرض اليباب
ولا كتاب ...
سأصير يوماً شاعراً
والماء رهن بصيرتي
لغتي مجاز للمجاز
فلا أقول ولا أشير إلى مكان
سأصير يوماً كرمة
فليعتصرني الصيف منذ الآن
وليشرب نبيذي العابرون
على ثريات المكان السكري ّ
أنا الرسالة والرسول
أنا العناوين الصغيرة والبريد
لو توغلنا في هذا النص لوجدنا كيف يتعامل مع الموحي برشاقة ملفتة، وينشغل باللقطة والجملة المكثفة البسيطة، واللغة التي تصنع فروقها لتخصب أدواتها، مستفيدا من لعبة الأشكال الصوتية بما يحقق طاقة نغمية ساحرة، وهالة للبدء في خلق أسطورته الخاصة (الجدارية).
هل كان الشاعر، وهو يخوض تجربة الموت، في الجدارية يستعيد بعضاً من عالمه الشعري في قصائد سابقة تعبيراً عن التمسك بالحياة (على الأرض ما يستحق الحياة)؟
إن الشاعر كان يظن أنّ الجدارية هي آخر ما يكتب، ولذلك نراه استعاد بعضاً من تعابيره الشعرية الساطعة كنوع من تلخيص سيرته الشعرية في تداخلها مع سيرته الشخصية ليؤسس عليها الأسئلة الجديدة باستعاراتها وبلغتها وحتى بسرديتها، لكي يلخص نفسه ولغته ومرجعياته في عمل واحد بديلاً عن الأعمال الكاملة. وهذا ما ورد في حواره مع الناقد الأردني فخري صالح.
وهكذا يعيش محمود درويش بعد أن مضى الموت في سبيله بعد الجدارية. ولكن سؤال الموت يظل يخترق الشاعر، كما يخترقه سؤال الحب:
هزمتكَ يا موت الفنون جميعها
هزمتك يا موت الأغاني
في بلاد الرافدين ِ
مسلّةُ المصريِّ
مقبرةُ الفراعنة
النقوش على حجارة معبد
هزمتكَ وانتصرت ْ
وأُفْلِتَ من كمائنك الخلود
إن الشاعر يعلن انتصاره على الموت،مثلما انتصرت الأغاني في بلاد الرافدين ومسلة المصري، ومقابر الفراعنة وأنه خالد لا محالة، بما ابتكره كأسطورة للشعر الفلسطيني والإنساني في كل تحولاته، وانتشاره.
هل ملأ محمود درويش الدنيا وشغل الناس كما فعل المتنبي؟ اعتقد بأن الشاعر شكلّ ظاهرة شعرية واسعة النفوذ والأهمية. وفي العمق الفني والسياسي والتاريخي صيرّ قضيته إلى مجاز شعري واسع التأويل والتخييل والإدهاش بحيث يتجاوز المكان الجغرافي لوطنه العربي ليتحاور مع قارئ متعدد اللغات. وهو مثلما أعاد إلى شعبه صوته الشعري، كما يقول الناقد فيصل دراج، فإنه أيضاً شاعر الحالة الفلسطينية في فضاء الكون الإنساني، حيث كان قادراً على صهر التجربة الإنسانية وإثراء الهوية الثقافية بتعددية المكونات.
لا أقول الحياة بعيداً هناك حقيقية ٌ
وخيالية ُ الأمكنة
بل أقول: الحياة هنا ممكنة
ومصادفة ً صارت الأرض ُ أرضاً مقدّسة
لا لأنّ بحيراتها ورباها وأشجارَها
نسخة ٌُ عن فراديس علوية ٍ
بل لأن ّ نبيّاً تمشى هناك
وصلى على صخرة ٍ فبكت
وهوى التلُّ من خشية الله
مُغمىً عليه
نلاحظ هنا أنّ اللغة مشغولة بقدرة العارف والرائي، والشاعر يقبض بمهارة على الصور الحسية والامتدادية والصور المركبة بشكل توتريّ ووظيفي، مستفيداً من التراثي والديني عبر اشتباك الواقعي بالحلمي، والحلمي بالكوني، ومستخدماً الزمن القائم على الصيرورة والزمن الآخر الذي تخلقه القصيدة من داخلها وعبر توغلها في القرآني والتاريخي، بما ينشئ السفر الزماني.
وهنا أقف لأتساءل هل القصيدة زمن يتضمن أكثر من الزمن لأنّ لحظة الشاعر الروحية لا تتلاقى بالضرورة مع لحظته المكانية؟ وهل الأنا تتفكك إذا ما انغمست في الزمان؟
أعتقد بأن محمود درويش كان شاعر اللحظة المتجددة، أي اللحظة غير المتكونة التي لا يَقبضُ عليها أيُّ زمان ولا تركن في أيَّ موت، كما تقول الشاعرة السورية، غالية خوجة، لأنها تدوم في المتحول، من مكوناتها وأنساقها وطبائعها وألوانها، والتي تشكّل جميعاً حراكاً مريباً في صيرورة الموت، وتجعل منها أبداً آخر أو أزلاً جديداً. ولعل في تساؤلي ما يشي به هذا النص:
وقفتُ على المحطة لا لأنتظر القطارَ
ولا عواطفيَ الخبيئة َ
في جماليات شيء ٍ ما بعيد ٍ
بل لأعرف
كيف جُنَّ البحر
وانكسر المكان ُ
كجرّة ٍ خزفية ٍ
ومتى ولدت ُ
وأين عشتُ
وكيف هاجرت ِ الطيور
إلى الجنوب أو الشمال
ألا تزالُ بقيّتي تكفي
لينتصر الخياليُّ الخفيف على فساد الواقعي؟
ألا تزال غزالتي حبلى؟
إنها الحساسية المشغولة بشفافية عالية، والحراك الإيقاعي المتنامي بالاشتباكات اللغوية الداهشة، وبتلك الأسئلة التي تخلق علائق مذهلة ومساحات هائلة لقراءات الرؤيا. ومثلما انشغل محمود بالسياسي والأسطوري والصوفي فإننا نراه عذباً حتى الذوبان بالهم الوجداني وحالات الفقد والاغتراب:
تنام ريتا في حديقة جسمها
توت السياج على أظافرها
يضيءُ الملح َ في جسدي
أُحبك. نام عصفوران تحت يديَّ
نامت موجة ُ القمح النبيل
على تنفُّسِها البطيء
ووردةٌ حمراء نامت
في الممر ِ
ونام ليلٌ لا يطول
والبحر نام أمام نافذتي
على إيقاع ريتّا
نامي يداً حول الصدى
ويداً تُبعثر عزلة الغابات ْ
هدأت ْ خلايا النحل في دمنا
فهل كانت هنا ريتّا
وهل كنّا معا ً
هنا في هذا النص لغة نقية صافية وبمنتهى الاناقة، وهي تختزل الحالات في نشوتها المباغتة بما فيها من إزاحة وَتَحرُشٍ بالمجرد، والمحسوس في لهبهما المتصل والمنفصل.
إن الشاعر مصاب بحمّى الحنين ويجذبنا إلى طقسه المتوهج حيث يضعنا في المتوهج من التعاشق، وفي مواجهة الألم والحب الضائع، كما يلتبس الشاعر بحالته حيث يقترف الإرهاف والجذب بنفس الحدة التى يقترف فيها الناي حالات تَوَجُعِهِ الشهوي.
أخيراً يقول الناقد صلاح فضل: لم تهتز الأمة العربية منذ رحيل عبد الناصر كما اهتزت لغياب محمود درويش الأمر الذي أثبت قطعياً أهمية حضور الشعر في الوجدان العربي من ناحية وتجسده في رمز يعترف به الجميع من ناحية ثانية. وقد تُوّج درويش بأثر رجعي عند وفاته سيداً للشعراء العرب محققاً المعادلة المستحيلة بين الشعر الحداثي والتّلقي الجمالي الجماهيري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.