البعض يتحدث باسهاب وبنوع من التنظير الانتقائي حول مشكلة النقد في المشهد الثقافي !! والبعض الآخر يبشر بموت الناقد على غرار موت المؤلف وموت التاريخ وغيرها من (الميتات) الافتراضية !! وربما ثمة من يتداول ويؤسس قلقه على اساس تهمة جاهزة وهي ان انجاز الناقد الجديد واجتهاده لم يكن بمستوى (نقد ايام زمان) حين كان الناقد يجلس في الاسواق او التكايا او ايوانات السلاطين ليلقي بأحكام قيمته وخياراتها بين المحاسن والمساوىء .. وكأن الناقد المعاصر لاشأن له سوى ان يماثله في هذا الدور الاستعراضي حيث الجلوس عند فم المطابع ليقول بنقد القيمة واحكامه الفاصلة !! وليبشر بهذه الظاهرة او تلك على طريقة زوج امرؤ القيس ! ان مشكلة النقد في الثقافة العربية مشكلة حقيقية وهي جزء من المشكلة (الحضارية) ومشكلة تحولاتها في الثقافة والنص والتحول والوعي ،مثلما هي ايضا قراءة في اسئلة الانسان العربي الذي يعيش اخطر حلقات صراعه مع الذات المأزومة بمرجعياتها وانماطها المكرسة في السلطة والسياسة والانتماء ،وصراعه مع الآخر التنويري والعولمي و الاشكالوي المكرس ايضا في انماط الثقافات الاستعلائية وتداعيات الصراعات الكونية على مستوى إعادة انتاج السلطة والخطاب (الثقافي والسياسي) والسوق والحرية والوعي والهيمنة ,, فضلاً عن ذلك ان هذه الاحاديث تواجه الكثير من الخلط المفاهيمي في الاحكام والسياقات ،وبالتالي فانها غالباً ما تقع في العشوائية والمجانية .. ومن هنا فإن التعاطي مع النقد اصبح جزءاً من التعاطي مع مجموعة من التحولات المعقدة في الفكر وفي جوهر الاسئلة الانطولوجية ،وليس شأنا مهنياً خالصاً او ثقافوياً قريناً بصناعة مجالات تفسيرية لقارىء محتمل !! لان النقد اصبح جوهرا في الحراك التاريخي وان نقد الادب هو جزء من منظومة هذا الحراك وتمظهراته في النقد المعرفي والنقد الثقافي الذي بدأ يؤسس الكثير من اشكالاته على اساس ان الثقافة معنية بالتفاصيل ومعنية بمرجعيات تكونها في الذات والمكان والعادات والقيم وكل ما تبثه النصوص المجاورة ، مثلما هي معنية بالثقافة الابداعية والفكرية انها فاعلة في صياغة الموقف وفي صياغة فاعلة وحية في صناعة مفاهيم القراءة .. ولعل اية قراءة جادة للاشكالات السياسة المعاصرة وازمة الانسان المعاصر بمواجهة طبائع الاستبداد (السسيو ثقافي) والهيمنة التي تفرضها القوى المحركة والمالكة لرأس المال السياسي والاقتصادي ،تكشف لنا حجم الاشكالية المعقدة في التعاطي مع مفهومات النقد واسئلة الثقافة ، اذ ان توظيف النظام المعارفي المعاصر بكل مكوناته في صناعة المنظومة الثقافية ، يضعنا امام تداعيات ضرورة البحث عن انعكاسات النقدي على مرجعيات الثقافة بكل مستوياتها !! اذ يتداخل هذا الجانب مع الاشكالات التي تتوالد من آليات النظام السياسي ومفاهيمه !! من منطلق خلق موجهات فاعلة في السيطرة وفي الاحكام وفي اعادة قراءة الظواهر السياسية العالمية والاقليمية التي اسهمت في انتاج ازمة الانسان العربي وتوريطه بحروب ثانوية وسرية اكثر تعقيدا ، ومنها ما تشكلت ملامحه ما بعد انهيار الحرب الباردة والصراعات القطبية وتداعيات احداث 11/ ايلول/2001 وانهيار الاشكال التقليدية لمفهومات الدولة والقانون الدولي والصراع وازمة الحاكمية ومفاهيم الاصلاح والديمقراطية الذي تحاول ان تفرضه القوى العالمية المهيمنة وبما فيها امريكا !! إذ ان المحافظين الجدد في السلطة والنظام الامريكي المعاصر يعمدون الى توظيف كل المرجعيات الفلسفية الغربية بدءا من جدليات هيغل المثالية وصولا الى تفكيكيات دريدا في صنع ( سياقات) حاكمة للوعي واللغة ،خاصة صانعي هذه السياسة الذين قرأوا هذا التاريخ جيداً ،وهذا طبعاً يحدث وسط تشكلات جديدة لمفهوم النقد الذي انطلق في مرحلته العولمية الى مرحلته الكوزموبوليته على اساس ان الفكر الغربي هو النسخة الاكثر صلاحية لنشوء حضارة كونية تحاول ان تجد ان صراعها يقوم الايمان المركزي بفعل الهيمنة ونقد الآخر(الاسلامي والشرقي ) وليس نقد هذه الحضارة الكونية .. ان هذه الافكار والتشكلات هي جوهر التحول النقدي الفكري ،واتساع منطلقاته في المجالات الثقافية والسسيولوجية ، اذ لم يعد النقد هو الباحث عن القيمة فقط بقدر ما اضحى جزءا من القراءة الفاعلة التي تعيد انتاج النص والمدونات والافكار والقيم ... وازاء ذلك نجد للاسف ان الثقافة العربية مازالت وفي الكثير من جوانبها تنظر للنقد على اساس وظائفي محدود وربما في اطار مهني لايتجاوز حدود الناقد الانطباعي القديم ،وان استخدم النقاد مجالات النظرية النقدية فإن ذلك يصب في تماهيات تعويضية مع الآخر الصانع للمركز و الهيمنة ،، ولهذا اجد ان الحديث عن موت الناقد هو حديث تجاوزه الزمن ،لأننا امام لحظة تاريخية فارقة تؤكد (حياة الناقد) وحضوره باعتباره صانع الاسئلة ومشعل الحرائق.. ومن هنا فإن اعادة فحص وقراءة المنجز الادبي والمعرفي العربي يحتاج اولا الى وضع سياقات لهذه القراءة في التاريخ وفي الزمن الثقافي الذي انتجها ،مقابل ايجاد تقابلات حية تفترضها الاسئلة الوجودية التي تطرحها الثقافة الانسانية،،تبدأ من سياقات النقد ذاته ،،نقد الذات واشكالاتها وتابوهاتها ونقد الآخر المهيمن القهري ، نقد (النص ) المركزي الطارد لنصوص الهامش !!!!!!واظن ان الوعي بهذه (النقدية) هو مدخل موضوعي للكشف والمواجهة ،، لأننا لم نعد نعيش في واقعيات نجيب محفوظ وغائب طعمة فرمان !! او سحريات بن جلول ، او ازمات السياسي الثوري المحمول على كل تداعيات الرومانسية الثورية عند البطل المثقف/ البرجوازي / الجنسوي /الوجودي/ الحزبي المحبط كما في كتابات حيدر حيدر وعبد الرحمن مجيد الربيعي وغيرهما من حكواتية الجيل الستيني .. بل اننا متورطون حدّ النخاع !! في عالم يصنع لنا ازماتنا وحروبنا وصراعاتنا وانماط اسواقنا الاستهلالكية وحتى(مصروف جيوبنا )!!!! ،وان ثقافتنا النقدية تقوم على شتمه فقط وتشويهه او النكوص ازاءه الى حلول متطرفة تخلط بين العنف والعزلة دونما ايجاد نقد حقيقي لمشروعه الحضاري والسياسي في المجالات كافة بما فيها المجال الابداعي المهني ،الذي يحتاج الى وقفات جادة والى ورشات عمل وليس الى مؤتمرات خطابية كما يفعل ادباؤنا العرب ،من اجل تأسيس ممهدات ولو بسيطة لمشروع ثقافي يشرعن فاعلية الحوار مع الآخر ومواجهة خطورة مشروعه القائم على اساس فرض قيم سياسية ومكانية ولغوية تبدأ من مشروع الشرق الاوسط الجديد بكل نزعاته التفكيكية وصولا الى صناعة الحروب الاثنية والعرقية والطائفية التي هي جزء من محاولة (اعادتنا) الى لحظات غابرة !! بكل ماتعنيه هذه اللحظة من عتمة وغياب وتخلف مقابل خلق قوى خارقية نضطر للجوء اليها لكي ننقد جلودنا من الحرائق المحتملة .. لذا اعتقد ان الحديث عن النقد الوارد في طروحات زملائنا بهذه البساطة أمر لم يعد مستساغا ، واظن نحن بحاجة الى نقد كلياني يدخل في مجال التنمية الفكرية والبشرية والثقافية و له منطلقاته وبرامجه ، اذ سيكون النقد عنصرا في اعادة تأمل وفحص كل مشاريعنا واشكالاتنا والاسباب العميقة لهزائمنا المعقدة ،،،مقابل هذا نحن بحاجة ايضا الى تقاليد مهنية في صحافتنا ودورياتنا الثقافية التي ينبغي ان تقوم على اساس المتابعة الجادة والمنصفة للتعريف بالادب الجديد وصعود اجيال جديدة من المثقفين لهم شواغلهم واسئلتهم ،بعيدا عن المجالات التي تسعى الى تكريس هذه الظاهرة او تلك ،وللاسف هذا هو الشائع خاصة في صحافتنا الكبيرة مثل الحياة والشرق الاوسط والصحف المصرية والصحف الخليجية وتحت اوهام الحفاظ على التقاليد المهنية ،،وكأن هذه التقاليد تمنع الجميع من القيام بمسؤولياتهم في المتابعة الجادة والتبشير بالمواهب الجديدة والسعي الى قراءة ما ينجزه المبدعون دون اغواءات السياسي والسلطوي ، فضلاً عن الدعوة للاتحادات والروابط الادبية العربية للقيام بمسؤولياتها في ذلك وتفعيل مؤتمراتها ومهرجاتنا بشكل ينمي المسؤولية الثقافية والنقدية وان لاتظل هذه الفعاليات مسيسة !! وبعيدة عن جوهر المشكلة التي يصنع الآخر فصولها بمهارة حاذقة ...