عندما تتحفز أمة إلى التقدم وهي تملك أدوات التطور مادياً وعلمياً وتمتلك الشروط الحضارية لصنع واقعها الجديد ، فإنها تؤهل نفسها لخوض أي سباق حضاري وهي بكامل ثقتها ومن هناك تبدأ نجاحاتها تتوالى ، ومنجزاتها تتعاظم ، ويبدأ ركبها الواثق يخطو إلى التقدم باقتدار فيما تقف الأمة المتخلفة شاهدة على عصر التحولات وهي في حيرة من أمرها . وقد عكفت هذه الأمة طويلا تلعن حالات تأخرها الحضاري لأكثر من تسعة وتسعين عاماً ، او يزيد قليلاً فوقها من السنوات ، إذ تلعن هذه الأمة كثيراً من إخفاقاتها وتراجعاتها، وتمزقها ، وتيهها بين خيارات عديدة، اختارت منها ما اختارته ، وتخلت عن كل ما تخلت عنه ولم تفرح كثيراً بل ندمت طويلاً ، وهي أمة تتوسط العالم بجغرافية مترامية الأطراف ، وثروات هائلة متنوعة وهي تعيش بعوز في معظم مجتمعاتها ، وتنتشر ممارسات الظلم بين ثناياها، ويتنوع الاستبداد في نظمها التي ظنت مجتمعاتها أنها سوف تدفع بها إلى التقدم ومسابقة الآخر المتحضر المتحفز للانقضاض عليها ، فوجدت في خاتمة المطاف أنها أعجز من أن تدخل سباقاً حضارياً وحريتها غير مكتملة ومشروعها الحضاري ليس إلا مجرد أفكار نظرية متنافرة متناقضة لا رابط بين أجزائها ووجدت خياراتها تتسرب منها كالهواء ، لأنها أصلا لم تحدد خياراتها الجميلة في التاريخ ، فاختارت الانكفاء كأمة كبيرة ابتعدت عنها الأحلام واقتربت منها الأوهام، إنها تحاول كأمة عريضة أن تشق مساراً ناجحاً في حياتها فتواجه تحديات كبيرة في انتظارها ، لأنها لم تحدد بعد خياراتها ومشروعها الحضاري في الحياة . وتحاول أن تدخل افقاً جديداً مناسباً لمنطق العصر ومتوائماً بشكله ومضمونه ولونه ومعطياته مع الواقع فتجد أنها مشدودة إلى ماضيها أكثر من مستقبلها، وتجد أنها فرطت بالرائع من طموحها اللذيذ حين تصورت أن تقدمها قد يفرضه عليها الواقع العالمي من دون أن تحرز زمام المبادرة الايجابية المتناسبة مع منطق التطور الصحيح فحصلت بعد ذلك على واقع استهلاكي مركب في ظل ظلم مركب واستغلال واستبداد وجهل وتخلف ووعي وفكر مركب وثقافة مركبة من المبررات التي عبرت إليها عبر التاريخ من ماضيها المجيد إلى حاضرها التليد. فقد مرت عليها عصور النهضة وهي أمة متثائبة مرت عليها غزوات المستعمرين وهي تغط بسبات طويل، ومرت عليها مشاريع الآخر المتفوق فنظرت إليها بانبهار يخفي أكواما من الحيرة لا إشعاعاً من الوعي ، لهذا فهي تلعن الفقر ولا تبحث عن أسبابه ، وتشتم التخلف ولا تحاول معالجة مسبباته وآثاره وتتذمر من هزائمها التاريخية ولا تبادر في دراسة ما يمكنها من تجاوزها، وتعارض الظلم ولا يعنيها أن تكون قدوة غيرها من الأمم في العدالة ، وتحلم بالحرية والديمقراطية والمساواة وكأنها أشياء جديدة قادمة من عالم آخر فيما كانت هي أمة تصنع الحرية وتقدسها فيما مضى من رائع أيامها البعيدة ولا تحاول استعادة أحلامها الجميلة لشدة ما أحاطها من الممارسات القبيحة وإلى كل ذلك تنسى أنها كانت أمة واحدة من شرقها لغربها لا تعرف نمطا تجزيئياً كما تعرفه في حاضرها هذا .. إنها أمة تعبر عليها مطامح المستعمرين وأفكارهم وتجاربهم ومشاريعهم وفسادهم وحروبهم وانتهاكاتهم، ولا تبالي بعد ذلك أي مصير ينتظرها.. إن ماضي الأمة العربية لم يكن مجهولاً كما هو حاضرها هذا و عليه فالأمة العربية لن تستعيد شيئاً إلا إذا حددت خياراتها الإيجابية في الحياة ، ولن تتقدم إلا إذا حسمت مشروعها الحضاري الذي تصنعه الأمة بنفسها وبإمكاناتها الذاتية لا باستعارة التقدم من غيرها ، ولن تصل لحريتها ما بقيت غير مكتفية مما تزرعه وتصنعه وتلبسه وتداوي به أمراضها وجهلها وفقرها وبطالة مجتمعاتها وفسادها وظلمها ، ولن تخرج من آفاقها المظلمة ما لم تحاول أن تجعل نور الحق والعدل والإيمان والإخلاص حاديها إلى التقدم والتحضر لتسعة وتسعين عاما وأكثر لم تحدد الأمة العربية قولا وفعلا خياراتها ومشروعها الحضاري وأهدافها العريضة في الحرية والعدالة والديمقراطية والنماء والتقدم . لم ترسم لنفسها أملا في الحياة حتى تخرج من دهاليز الظلم والتخلف وبرغم ذلك لا توجد أمة من الأمم يمكن أن تعيش خارج نطاق التاريخ حتى الأمم المتخلفة هي تعيش التاريخ الذي يحياه الآخر المتطور إلا أن المتطور حدد خياراته ومساراته ومضى حثيثاً يصنع الإنجاز تلو الإنجاز فكان ناجحاً ، ومن تخلف عن الركب الحضاري بقي رهن عجزه وتخلفه ، فالآخر حدد مشروعه الحضاري المتكامل فكان سباقاً ، وغيره تأخر عن المسار ، والسبب أنه كان يمضي بهداية رؤاه الواضحة فصار أكثر ثقة من غيره من الأمم ، وبعد كل نجاحاته سياسة واقتصاداً وتحولات ثقافية واجتماعية عظيمة أراد العالم أن يكون وفق هيمنته تابعاً متلقياً وطيعاً لمشاركيه وأجندته ومفاهيمه ، لأن منطق المهيمن يختلف كثيراً عن منطق الضعفاء الذين يحاصرهم الجهل والظلم والفقر والتخلف ، ولهذا أصبح المهيمن الأقوى هو من يحدد مصائر الأمم المتأخرة عن ركب الحضارة والتقدم والأمة العربية ،دون مغالطات فكرية هي أمة من هذه الأمم المتأخرة ، التي يجب أن تعي واقعها ومتطلباته ، وأن تعي مصيرها المستقبلي الذي يجب أن ترسمه هي ، لا أن يرسمه لها الآخرون. يقول الشاعر عبد الرحمن شكري في قصيدة له لشكسبير : والناس كالقول المعاد كأنما عود الأمور فريضة وقوام والخلق عدوى لا الفهيم بمأمن من صولها كلا ولا العلاًّم