منذ مائة عام أبدى «فلوبير» “G. FLAUBERT” في رسالة كتبها لعشيقته الملاحظة التالية: «كم نزداد علماً إذا اقتصرنا على المعرفة الجيدة والدقيقة لخمسة أو ستة من الكتب»..يجب علينا أثناء القراءة ملاحظة وتذوق الجزئيات، وليس ثمة ما يضاف ليلاً في ضوء القمر من أفكار عامة إذا كنا قد التقطنا بحب وشغف الومضات الصغيرة للشمس من الكتاب. فإذا بدأنا من عموميات جاهزة، فقد بدأنا من المدخل السيئ. وسنبتعد من الكتاب قبل البدء في الفهم. هناك لونان من الخيال لدى القارئ. ولننظر أيهما يكون استدعاؤه مناسباً للقراءة. هناك لون من الخيال الأدنى، يستند إلى أحاسيس بسيطة ذات طابع شخصي (وهذا النمط من القراءة العاطفية يحتوي على عدد من التقسيمات التحتية.). قد نتأثر عميقاً لموقف في الكتاب لأنه يذكرنا بواقعة حدثت لنا، أو لأحد من معارفنا. أو يفضل بعضهم كتاباً لأنه يذكر بلداً، أو منظراً، أو نمطاً من الحياة، يجد فيه نوستالجيا ماضيه الخاص، أو يتمثل ذاته في شخصيات القصة وهو أسوأ المواقف التي قد يقوم بها ولست أحبب هذا النمط الدنيء من الخيال للقارئ. ما هي إذن الأداة الفضلى التي يستعملها القارئ؟ إنها الخيال اللاّ شخصي والمتعة الفنية. والذي أعتقد أنه يجب تحقيقه، هو إجراء تناغم بين عقل القارئ وعقل المؤلف، والمحافظة على مسافة ما، والتمتع بهذه المسافة. ومن ثم التذوق الكلي، والتذوق الملتذ، والتذوق بواسطة العبرات والقشعريرات للّحمة الحميمية لهذا الأثر أو ذاك. إن الموضوعية الخاصة مستحيلة في هذا الميدان! وكل ما هو أهل يوجد في مقدار من الذاتية. قد يحصل مثلاً أن وجودك على هذه المدرجات هو ملك حلمي الخاص، أو أن أكون كابوسك، ولكن الذي أريد قوله أنه على القارئ أن يعرف متى يحد من خياله حتى يتمكن من الرؤية الواضحة للعالم المتميز الذي يضعه المؤلف في متناول يده. يجب علينا أن نرى الأشياء، وأن نسمعها، وأن نتمثل الديكور والثياب، وعادات شخصيات المؤلف. إن لون عيون «فاني برايس» “Fanny Price” في “Mansfield Park” وأثاث غرفتها الباردة عناصر ضرورية. إن أمزجتنا تختلف، وأستطيع من الآن أن أقول لكم إن أفضل ما يمكن أن يمتلكه القارئ، أو تنميته، هو تركيب من المزاج الفني والمزاج العلمي. وللفنان وحده في نشوته أن يكون ذاتياً. ثم يأتي فيما بعد لون من الوقار العلمي يهذّب اندفاع الحدس. فإذا شاء أحدهم أن يندفع في قراءته مجرداً من الحماسة والصبر حماسة الفنان وصبر رجل العلم فهذا القارئ لا يقدّر إلاّ بمشقة الأدب الرفيع. لم يولد الأدب يوم أن صرخ طفل صغير: «الذئب.. الذئب!» وهو يعدو في سهل «نياندرتالي» “Neanderthal” وفي أعقابه ذئب أغبر. ولكن الأدب ولد يوم أن صرخ الطفل: «الذئب.. الذئب!» ولم يكن شيء يلاحقه. فإذا قضى هذا الطفل ضحية أكاذيبه المتكررة، فالأمر ثانوي، فالمهم أن بين الذئب في طرف الغابة، والذئب في طرف الصفحة التماع حلقة.. هذه الحلقة، هذا المؤشور، هو الفن الأدبي. إن الأدب إبداع، والخيال خيال. أن نسمي قصة، قصة واقعية، هو شتم للفن وللحقيقة في ذات الآن. وكل كاتب كبير إنما هو مشعوذ، وكذلك هي الطبيعة المخادعة. إن الطبيعة تخادع دوماً! فمن مخادعة التناسل إلى الحركات الدفاعية المعقدة للفراش والطيور، تمتلك الطبيعة أروع جهاز للسحر والشعبذة. ولا يصنع المؤلف سوى اتباع السبيل الذي سطرته الطبيعة. ولنعد قليلاً إلى طفلنا المتوحش، وهو يصرخ: «الذئب.. الذئب!» عند طرف الغابة. ويمكننا تلخيص الموقف كالتالي: لقد كان سحر الفن في شبح الذئب الذي اختلقه، في حلمه بالذئب، وبعدها كانت الأكاذيب التي روجها هي القصة الجيدة. وعندما قضى فريسة بين أنياب الذئب، اكتسبت القصة قيمة المثل الذي يروى مساءً حول نيران المخيم. بيد أن الساحر الصغير كان مبدعه. وفي إمكاننا أن ننظر إلى المؤلف من زوايا ثلاث مختلفات: قد نعتبره حكواتياً، مربياً، مشعبذاً. وفي مقدور الكاتب الكبير أن يؤلف بينها جميعاً (حكواتياً + مربياً + مشعبذاً) ولكن المشعبذ يهيمن على الأخرى، وذلك الذي يجعله كاتباً كبيراً. عندما نلتفت إلى الحكواتي فإننا نبحث عن التسلية، أي أننا نبحث عن إثارة عقلية من اللون البسيط جداً، أو المشاركة العاطفية، أو متعة السياحة في أماكن قصية في الزمان والمكان. ويبحث نمط آخر من العقول المختلفة قليلاً وليس بالضرورة الأرقى في المؤلف عن المربي، الداعي، الأخلاقي، النبي، بحسب النظام التصاعدي. وقد لا ننتظر من المربي درس الأخلاق بل المعرفة المباشرة والإشارات البسيطة. وقد عرفت وللأسف أناساً لا يقرؤون الروائيين الفرنسيين أو الروس، إلاّ بغية التقاط المعلومات عن أساليب العيش في باريس المرحة، أو عن روسيا الحزينة. أخيراً وقبل كل شيء، فإن الكاتب الكبير يكون دوماً ساحراً كبيراً. وفي هذا المستوى وحده نلامس الوجه الجذاب للمسألة. عندها نحاول المسك بسحره الخاص، ودراسة أسلوبه، وصوره، ومعمارية رواياته وأشعاره. تسعى الأوجه الثلاثة للمؤلف الكبير (سحر+نص+ تعليم) إلى التمازج والاتحاد في انطباع مشع واحد ووحيد، بل يمكن أن يتجلى سحر الفن في هيكلية النص، في نخاع الفكر. هناك آثار خالدة للفكر الدقيق، الصافي، المبنين، تهز في ارتعاشات إحساسنا الفني بنفس الدرجة التي تحدثها رواية مثل “Mansfield Park” أو أي دفق للصور الجميلة عند «ديكنز» “DICKENS”. يبدو لي أن أفضل معيار لتقويم الرواية أخيراً هو أن نكتشف فيها، في تلاحم شديد، دقة الشاعر، وحدس رجل العلم. وإذا أراد القارئ العبقري أن يسبح في سحر الكتاب، فلا يقرأ بقلبه ولا بعقله، ولكن بنخاعه الشوكي: هنا تتم ترجمة الرعشة الموحية. حتى وإن تطلب ذلك الحفاظ على شيء من المسافة، وشيء من الانفصال. عندها نشاهد من خلال متعة عاطفية، وأخرى فكرية الفنان وهو يبني قصره الورقي، ونشاهد القصر الورقي يتحول إلى قصر من زجاج وفولاذ براقين. ترجمة وتعريب: أ.د. حبيب مونسي. كلية الآداب والعلوم الإنسانية. جامعة سيدي بلعباس.22000 الجزائر. فصل من كتاب: الأدب 1.(القراء الجيدون والكتاب الجيد) نشر فايار.1983 بالنسبة للترجمة الفرنسية. ترجمة: هيلين باسكييه. ولد فلاديمير نابوكوف عام 1899 في سان بيترسبورغ من عائلة أرستقراطية. نفي عام 1919. عاش أولاً في كامبريدج، أين أنهى دراسته، ثم ألمانيا وفرنسا، وغادرها عام 1940 ليستقر بالولايات المتحدةالأمريكية. درس مدة عشرين عاما في “WELLESLEY COLLEGE 1941/1948? وفي “CORNELL UNIVERSITY 1948/1958? وبعد النجاح العريض لروايته ”LOLITA” عاد إلى سويسرا في MONTREUX أين وافته المنية عام.