استهلال.. إنني أستعين بالخيال والحلم والرؤيا لكي أعانق واقعي الآخر، ولا أعانقه إلا بهاجس تغيير الواقع وتغيير الحياة.. أدونيس الحداثة تعبير عن الوعي الجمعي للأمة وفق أكثر الأشكال الأدبية تواصلاً مع التراث ومعاصرة الإبداع. محيي الدين صبحي الجوهر الأصيل للإنسان ليس في ذاته الفردية المنعزلة، بل في علاقته الموضوعية بواقعه الاجتماعي والتاريخي. محمود أمين العالم تسعى الحداثة الشعرية العربية بمختلف اتجاهاتها إلى أن تكون حداثة شمولية، ومشروعاً حضارياً يتوخى العالمية والإنسانية والمعاصرة. فاعتبرت التحديث الشكلي وهماً، وطالبت الشاعر الحديث أن يكون له موقف إزاء الكون والإنسان والحياة والأشياء، وأن يتجاوز المناسبات والأغراض الشعرية الموروثة من مدح ورثاء وهجاء ووصف... ويرى نعيم اليافي أن هذا التحول ترتبت عنه ثلاثة أمور أساسية في مجال الشعرية العربية: أولها أن الشعر أصبح معرفة بالعالم وليس وصفاً ظاهرياً له. وثانيها أنه أصبح كشفاً له وليس اجتراراً وإعادة إنتاج. وثالثها أنه أصبح تحدياً له وصراعاً معه وتمرداً عليه. إلا أن هذا الموقف بنتائجه الثلاث (المعرفة الكشف التمرد) يختلف من اتجاه إلى آخر، بل من شاعر إلى آخر. فالاتجاه الحداثي ممثلاً في أدونيس يرى أن الشعر الحديث شعر رؤيا. أي كشف عن عالم يظل في حاجة إلى الكشف بواسطة الحدس والتخييل والحلم. إنه إدراك ذاتي إلى أقصى درجة، وتجاوز للمعرفة المشتركة، معرفة العقل والمنطق والحواس، واستغراق كلي في عالم الذات. هذه المفاهيم (الكشف الحلم الحدس) توحي بميتافيزيقية الرؤيا الحداثية بوصفها موقفا من العالم، وبتلقائية الإبداع وفوضويته، بعيدا عن أي تنظير قبلي أومعرفة سابقة، ذلك أن الرائي الشاعر يرتبط بما فوق الواقع، ويدرك الأشياء في حقيقتها المطلقة كما يعيشها، وكما تراها عينه الباطنية. هذا التصور الأدونيسي مستقى من التصور الفرنسي للرؤيا، وبشكل خاص تصور بودلير ورامبو ومالارمي، إذ مع هؤلاء الشعراء وغيرهم أصبح دور الشعر هو إعادة الاتصال «بالقوى الغامضة للإنسان واللغة بعيداً عن أي مسعى عقلاني». فالرؤيا عند بودلير شعور بالاندماج والمطابقة بين الذات والموضوع على نحو ملموس وحاد. وعند مالارمي مطاردة المطلق العنيد اليائس تقريباً. أما رامبو فطلب من الشاعر أن يتوصل إلى الكشف عن المجهول عبر تشويش على الحواس، وأن يكون سارق نار. وبعد عودته يشعرنا باكتشافاته. وقد جمع الاتجاه الحداثي، وأدونيس بشكل خاص، هذه الآراء ووفق بينها، فصاغها تنظيراً وإبداعاً، وجعل من الغرابة موضوعاً، ومن مطاردة المجهول والمطلق وظيفة، ومن الحلم والحدس والتخييل وسيلة. أما الاتجاه القومي ممثلاً في محيي الدين صبحي أحد كتاب الاتجاه القومي اللبرالي، فيرى الرؤيا تعميقاً للمحة من اللمحات بشكل يبرزها على أنها رؤيا شاملة، وموقف من الحياة يفسر الماضي، ويشمل المستقبل. ولا يربط هذا الاتجاه الرؤيا بالحلم والسحر والنبوة كما الاتجاه الحداثي، وإنما يراها نظرة شاملة تتحقق في كل مكونات النص الشعري (البنية الأسلوب الصور). إنها وجهة نظر المبدع يصوغ من خلالها تجربته الحياتية والفنية. وتتكون من سلسلة من الفرضيات تولدت في عقل شامل، وفكر حساس يستجيب لتجارب الحياة استجابة فنية، وتكون تفسيراً للحياة أو اقتراحاً بديلاً لها. ذلك أن الشاعر المبدع لابد أن يقف موقفاً من الحياة. موقف المؤيد، وفي هذه الحالة يكون شعره تفسيراً لها، أو موقف الرافض، فيكون شعره حاملاً لبديل مأمول، وإجابة لتساؤلات إنسانية كبرى. ويرى صبحي مستشهداً بإليوت أن الرؤيا تجمع بين الفكر والشعور. فالشاعر يدرك موضوعه إدراكاً ذاتياً يخرجه من المألوف والشائع ويضفي عليه صفة الغرابة والتعجب والاندهاش. وقد عرف تاريخ الشعر العربي الحديث انفصالاً بين الفكر والشعور، فالكلاسيكية ألغت البعد الانفعالي، وغلبت البعد الموضوعي. والرومانسية غلبت الميوعة العاطفية، فانفصل الشعر عن الحياة ؛ فظهرت القصيدة العربية المعاصرة لتعيد توحيد الفكر بالشعور. وإذا كان أدونيس يرى في الرؤيا حلماً ونبوءة فردية وذاتية، فإن صبحي يرى أنها تتعدى الظروف الشخصية للشاعر للتعبير عن الذات الجماعية في تجاربها الماضية وتطلعاتها المقبلة. «فالأدب ليس تعبيراً عن ذات الشاعر الخاصة إلا بمقدار ما ترتبط هذه الذات باللاوعي الجمعي للعرق، ومن ورائه بالتجارب الإنسانية جمعاء. هذه الكلية في الشعور تملي على التعبير قدراً من الموضوعية يبتعد به عن المواقف الذاتية والظروف الشخصية، إلا إذا استخدمت هذه المواقف الذاتية والظروف كوسائل لأسطرة الحادثة، أو لإبراز النموذج البدئي. غير أن هذه الموضوعية ليست علمية، بل هي موضوعية ناشئة عن خروج الذات من إنيتها لتقع في الذات الجمعية للجنس البشري». ويتوسل الشاعر لإبراز موضوعية الرؤيا بتقنيات متعددة أهمها الرمز والنموذج البدئي والأسطورة والحوار الذاتي والمسرحي والقناع.. ويرى صبحي أن هذه الموضوعية هي التي تجعل «العمل الفني لا يتساوى مع قصد الكاتب منه (...) وهذا ما يجعل من الإبداع عملية اكتشاف مفعمة بالمفاجآت والدهشات». كما تجعل منه معادلاً موضوعياً مستقلاً بذاته حاملاً لمفاتيحه من داخله لا من خارجه. واضح من هذا التصور أن الرؤيا القومية كما نظر لها محيي الدين صبحي تنحو نحو الرؤية العقلانية أكثر منها نحو الرؤيا في بعدها الشخصاني. فهي مرتبطة بالوعي الجمعي للأمة ماضيها وحاضرها، وتتطلع نحو مستقبل محدد واضح المعالم تتغيا الذات الجمعية تحقيقه. وبذلك، فلا مجال فيها للعفوية والتلقائية والهذيان على نحو ما نجد عند الحداثيين. وإذا كانت المسافة بين الرؤية والرؤيا واسعة عند الحداثيين، وضيقة عند القوميين، فإنها تنمحي عند الواقعيين الجدد الذين يرون أن الثقافة «محصلة لعملية متعددة العوامل يقوم بها المجتمع بكافة فئاته ومختلف وسائله، فالثقافة ترتبط بهذه العملية المتفاعلة لا ارتباط معلوم بعلة محددة، وإنما ارتباط تفاعل كذلك». لقد وقف هذا الاتجاه موقفاً رافضاً ومعارضاً للإطلاقية الفردية وللانعزالية ولكل الأخلاق الوجودية التي نادت بها الآداب وشعر، «فالجوهر الأصيل للإنسان ليس في ذاته الفردية المنعزلة، بل في علاقته الموضوعية بواقعه الاجتماعي والتاريخي، أما عزله كذات فردية فعمل فيه تعسف وافتعال، بل هو موقف مريض بجانب الوضع السليم لطبيعة الأمور». ذلك أن القول بإطلاقية الفعل والحرية، هو إغفال لقوانين الفعل وحدود هذه الحرية، ووضع حد للتطور الإنساني في حدوده الاجتماعية. وإذا كان لكل مجتمع فلسفته، فإن الواقعية الجديدة ترى أن فلسفة العالم العربي لا توجد في أوهام الوجودية إن في بعدها السارتري القومي أو بعدها الهيدجيري الحداثي، وإنما توجد في فلسفة «تعكس إيماننا بالعلم وقوانينه الموضوعية، تعكس احترامنا للتاريخ الإنساني الجليل الحافل بالجهود والانتصارات والقيم، تعكس كفاحنا المظفر ضد قوى الاستعمار والرجعية». فالشعر المصري فيما يرى محمود أمين العالم نشأ من عمليات المقاومة والكفاح من أجل بناء قوميتنا العربية، لذا لن يكون إلا شعراً مفعماً بالأمل والحياة والكفاح المستمر. هذا التصور له صلة مباشرة بالبيانات والتقارير الصادرة عن مؤتمر اتحاد الكتاب السوفيات الأول والثاني، وبشكل خاص المؤتمر الثاني الذي قدم عنه حسين مروة تقريره المفصل بنوع من الإعجاب والاندهاش يصل إلى حد التقديس. فقد حضر المؤتمر التلاميذ والجيش والبحرية واللجنة المركزية للحزب، وممثلو كل فئات الشعب السوفياتي، وكل يريد أن يلبي الكتاب طلبه ويكتبوا له شيئاً ما، وكأن الكاتب آلة قابلة لإنتاج منتجات تحت الطلب. هذا التصور يجعل من الكاتب المبدع ذا رؤية موضوعية عقلانية لا مجال فيها للفردانية، كما لا مجال فيها للتشاؤم. إنها رؤية تفاؤلية ومستقبلية. واضح من هذا العرض أن مفهوم الرؤيا بوصفها موقفاً من العالم تتعدد دلالاته بتعدد الاتجاهات، بل بتعدد الشعراء. فداخل كل اتجاه نجد اختلافاً في التصور، وفي فهم طبيعة النص الشعري ووظيفته. إذا انتقلنا إلى مجال النص الشعري، فإن الاختلاف سيزداد اتساعاً، وذلك لوجود هوة كبيرة بين التنظير والممارسة. فكيف عبر الشاعر المعاصر عن رؤياه شعراً؟ الاتجاه الحداثي: رؤياوية التنظير ولا رؤياوية الإبداع: النموذج الأول: الدارة السوداء: يوسف الخال. النموذج الثاني: البئر المهجورة: يوسف الخال. النموذج الثالث: السفر: يوسف الخال. النموذج الرابع: أغاني مهيار الدمشقي: أدونيس. يثير النموذج الأول غربة الشاعر في فضائه الزماني والمكاني، فالدارة سوداء، والسواد رمز الموت والحزن والكآبة، ويزيد من كآبتها كونها ملأى بعظام عافها نور النهار، ملأى بالظلام، بالصمت، بالشلل الكساح، بالموت، بالعدم، بالرمال. وهي صفات جعلت من الدارة أرضاً يباباً لا حياة فيها. في مقابل هذه الأرض الخراب هناك أرض بديلة هي أرض الشمال التي بنت بها العصافير أعشاشها. والعصافير لا تستقر إلا حيث الماء والخضرة والحياة. وبين هذين الفضاءين: فضاء الدارة المرفوض، وفضاء الشمال المأمول، تعيش الذات الشاعرة المصاغة في ضمير المتكلم غربتها. وقد تصل هذه الغربة إلى عجز الذات التام عن التوافق مع الماضي: ليته ما كان يوماً، ليته ما كان يوماً هكذا، ليته ما كان، بل ظل بأحضان الرمال. وعجزها عن مواراة الحاضر التراب لبعث غد جديد: أنا لا أجرؤ، لا أقوى على طمر العظام. قبضتي كلت وأظفاري براها الزحف من دار لدار. وعن الرحيل الذي حتى وإن تحقق لا يغير من واقع الذات شيئاً: أتراني أهجر الدار وأمضي، يدفن الأموات موتاهم وأمضي؟ أين أمضي؟ أإلى المأتم في الغابة والميت إله؟ أإلى العرس، وما في العرس خمر ومسيح؟ أم تراني ألزم الصمت وأبقى، جاثماً بين عظام عافها نور النهار، آه لا أدري، ولكني أصلي