أرجأت سؤالي، ومضيت أتأمله وهو يُسوي شاربه الفضي المتهدل، ويدفس كنكنة القهوة في جمر الموقد، حيث كانت النار التي شاخت تمضغ القوالح بتلذذ.. قلت لجدي الذي أوشك على التسعين، وأنا أستشعر دفء الجلوس إليه. - حدثني عن البنات يا جدي. توقعت أن تتغير فجأة ملامحه، لكن ابتسامة رقيقة أخذت تتسلل في هدوء شديد وثقة إلى وجهه المتغضن، ولم يمنع الجلد المكرمش نور البسمة أن يشرق على وجهه كما أشرق في أبهاء روحي.. قال وهو يتنهد: - رياحين خلقن لنا. - هذا كلام الشعراء. قلَّب البن والسكر بملعقة عمرها يفوق عمره، ثم قال: - زُيِّن للناس حب الشهوات من النساء. تذكرت جدتي التي رحلت منذ سنوات.. لقد رحلت عام سقوطه من فوق الفرسة.. وأذكر أنه تشاءم جداً يوم سقط وقال: هذه إشارة.. يبدو أنه الآن يرى وجهها الطيب البشوش وملامحها المنمنمة الباسمة. تمنيت أن يفرح عندما أقول له: - أريد أن أتزوج. قال وما زال في شروده يتأمل وجه جدتي: - على بركة الله سألته: - كيف أختار؟ تمهل قليلاً، ثم قال بعد أن عاد إليَّ بكامل وعيه: - لا تجهد نفسك في الاختيار.. سيحدث وحده - وما دوري؟ - وزع الله المزايا والعيوب على العباد بالعدل لحظة صمت ثم استطرد: - ولا أحد كامل. - يا جدي. - في كل إنسان عيب واحد.. فقط تجنب المنبت السيئ. - يا جدي. مد لي يده بفنجان القهوة المزركش أبيض القلب.. صعدت الرائحة المميزة إلى أنفي، ومضت حثيثاً إلى رأسي.. ظل شارداً يحدق في جمر النار الأحمر الشفاف وعلى وجهه آثار ابتسامة، ونبض ذكريات حبيبة تدغدغ روحه المحلقة.. أنا معه مغمور بالدفء والطمأنينة.. تشملنا عذوبة الصمت الجميل. بعد قليل جاء أبي، قبَّل يد جدي.. وجلس إلى جواره. عاد يُقبل يده ورأسه.. مدَّ له جدي فنجان القهوة.. قال أبي وهو يكاد يحتضن الفنجان ويتهلل له وجهه: - مِنْ يد ما نعدمها. أخذت وقتاً طويلاً حتى أقرر مصارحة جدي.. أخيراً استجمعت بأسي وعزيمتي: - يا جدي.. أبي يرفض زواجي ممن أحب. رمقني أبي مندهشاً.. سألني بعينيه المفتوحتين إلى أقصاهما عن سبب إشراك جدي في الموضوع.. قال جدي وهو يعيد «الكنكة» إلى النار: - زَوِّجْه يا محمود ممن يحب. حار أبي وتنهد، ثم قال: - يا أبي.. إن. - زَوِّجْه يا ولد. ظهرت حيرة أبي في أصابعه المتوترة، ثم نطق على مضض: - حاضر يا أبي. لقد طرقت على الحديد وهو ساخن.. كانت فكرة جيدة إذ استعنت بالجد الرائع.. انحنيت بسرعة على يد جدي فقبلتها.. عاد يعبث بشاربه المتهدل، وأبي يتململ. قال جدي بعد أن أعاد الطاقية الوبر إلى الوراء وظهرت رأسه الجرداء: - لماذا لا توافق يا محمود؟! حاول أبي أن يرتشف القهوة، لكن الفنجان اهتز وتساقطت على صدره بعض القطرات.. وجَّه إليّ نظرات عاتبة.. ربما أكثر من ذلك.. تعجله جدي ليرد عليه.. ألقى أبي عبارته القاسية بسرعة: - والدها شرِّيب ومنفلت اللسان. أدركت على الفور أني سأفقد الموافقة ا لملكية.. لقد وجه لي أبي ضربة قاصمة. تحوَّل جدي إلى النافذة الوحيدة في القاعة، حيث نور الصباح الندي، ثم نظر إليَّ.. نكَّست رأسي.. سحب ورقة بفرة من علبته النحاسية الصدئة ذات القلب الأصفر البراق.. حشى الورقة بالتبغ وحاول أبي أن يشعلها له فرفض.. كان أبي قد أشعل الموقف. أخذ جدي نفساً وعاد يتأمل النور القادم من النافذة، لمح غصناً من شجرة النبق يهتز تحت جسديّ عصفورين يختطفان القبلات ويطيران في دورة قصيرة نزقة. عاد جدي يتطلع إليّ وقد بدا أنه لا يجد الكلام، وأنه شاخ قليلاً عما كان.. أحسست بغصة في حلقي، وبأني على وشك البكاء.. بل ترقرق الدمع في عيني.. عندئذ، قال جدي: - زَوِّجْه يا محمود ممن يحب. أعادني إلى الحياة بينما اختطف أبي فنجان القهوة فتجرعه دفعة واحدة، وانحنى على يد جدي فقبلها، وانطلق يقفز الدرجات الطينية إلى القاعة العليا. بلغني صهيل حصان.. تسلل الابتسام من جديد إلى وجه جدي وتحول إلى النافذة.. كان الصهيل لفرسة جدي التي أصر عمي على امتلاكها بعد أن أسقطت جدي قبل عشر سنوات في حادث أليم لا ينساه أحد من أهل البلد. يومها كان متعجلاً لحضور جنازة أحد أصدقائه القدامى في القرية المجاورة. مضى يدعوها للإسراع وكانت كعادتها تستجيب دون أن ينبهها لذلك، إلى أن التقت فرسها الأثير.. توقفت تبادله النظرات الحالمة وتتلقى منه الوعود الناعمة.. لكزها جدي لتنطلق.. فجأة ارتفعت بمقدمتيها عاليا وألقته على الأرض. تحطمت عظام الرجل ذي الثمانين.. احتوته غيبوبة، بعدها لم يستطع النهوض وقد شمله الذهول.. لم يقدر على تصور الحالة التي أصابت فرسته بالجنون.. وهو على الأرض يأكله الألم ولا يكاد يحس بعظامه، رآها تضرب ساقها الخلفية اليسرى في اتجاه الفرس، بما يعني: - امشِ الآن.. لقد تسببت في مشكلة. انحنت عليه تلعقه وتعتذر، وما لبثت وهي تراه على هذا الوضع المتردي أن فاضت عيناها بدمعتين ساخنتين. سقطتا على وجهه.. حاولت أن تساعده على النهوض فما استطاعت.. جاء المارة فأعانوه على الركوب.. توجهت في هدوء وحرص إلى الطريق نحو القرية المجاورة لكنه أشار لها أن تعود، لن تحمله قدماه لعدة أيام إذا أراد الله له عمراً..استشعر جدي طبول القدر.. غلبه التشاؤم وما لبثت جدتي أن رحلت.. طلب عمي أن يأخذ الفرسة الحزينة، وقد رفضته شهوراً وصبر عليها حتى لانت.. أما أنا.. فتزوجت ممن أحب.. وطلقتها بعد عام فقد كانت مشكلات عائلتها ثقيلة وعاصفة، زعزعت عش الحب.. وبعد أن اندملت جراحي، اشتقت إلى الدفء والقهوة..فعدت إلى جدي ليحدثني عن جمال البنات وقلوب البنات.