إن صورة الليل في شعر امرئ القيس لا توازيها في العمق حتى اللحظة صورة في شِعر العالم بمثل ذلك التصوير ... والشاعر الجاهلي في بعض نماذجه كان أشبه بمنظمة إغاثة إنسانية”.. القصيدة التي تُصنَّف ضمن ما يُسمَّى «الشعر الجاهلي» تعدُّ، رؤية لا شكلاً، قصيدةَ نثر بامتياز. وهي كذلك في سياقها قصيدة نثر لا مجازاً، بل مُجاوزة. ناهيك عن كونها تمثّل سبقاً في حقل الكتابة الشعرية المشتبكة - تاريخاً - في وعي تراكماتها وتأويلات تراثها .هذه القصيدة وإن التبست عمارتها لدى البعض حال استنتاج كونها قصيدة نثر كما أرى و«أروي» بالضرورة وبعيداً عن اعتبار توغلها في «التاريخ» أو كما تقرّر بعد ذلك على صعيد الشكل والإشكال في اجترار ذاكرة وثقافة بدوية راكمت وعيها وفطرته على إنتاج النمط . إلا أن مقاربة أو اكتشاف دلالة الشعر فيها وانفلاته عنها في آنٍ واحد وبحرّية تمقت كثيراً مديح التجربة هو ما أجده في متن قصيدة الشاعر «الجاهلي» حتى اليوم . وما انفراده وتفرّده شعراً ينثر صدق تجربته وتقويلات صورها بزمن أمكنته السينمائية المُبكرة، إلا شاهداً حياً على مُجاوزته بذلك لما تلاه من حقب عمودية الوعي ... هي إذاً القصيدة الباكرة التي تختلف وتلتقي في كثير من سمات ما لا تشترطه بالطبع قصيدة النثر اليوم في أرقى «نماذجها» والتي توازيها ذات القصيدة في تجربة «شعراء المعلقات» وإن على صعيد نصوع الرؤية داخلها وذاتية التجربة المتخفِّفة من مجرَّد الاقتناص التعبيري للصورة، والباحثة عن غير قصد لتأويل ما تقول. إنها قصيدة تمضي دون اكتراث أو امتثال رؤية شاعرها وشكلها للانصياع المُذلِّ على حساب جماليات القصيدة أو القصد، كما فعل المتنبي في استجداء غير طلِبةٍ أو هبةٍ حرير الأمير الحمداني . لم ترضخ تجربة الشاعر «الجاهلي» في قسر رؤيته لإشراك ذائقة جمعوية في كتابة قصيدته إلا لمماً. وبأخلاق خيال ما يقترحه هو قبل أن تتسرَّب صورة قصيدته إلى محفل الرواة والمضارب. في حين أن الذائقة العربية التي تصحَّرت حياتها وذائقتها بعد ذاك، كانت قد تشكَّلت على تخلق بنية ومزاج الشكل الحر لرؤية القصيدة... بصدقها وانفلاتها الحرّ قبل معرفة شاعرها بقيود الخليل المُتخلِّف بعموديته وفروضه اللاحقة بقرون عن الركب الحضاري للقصيدة المُدوّنة شفاهة ورواية ورؤية ألسنية وكتابة في الشعر «الجاهلي ». ولم تسلم قصيدة العصر «الجاهلي» من كونها قصيدة مُكَفَّرة من قبل مقاييس عصور تلتها. إلا أنها بقيت قصيدة الشاعر الصعلوك. ومنذ تلك الفترة الذهبية وهي تعيش حتى اللحظة ولا تزال عبر خطابها تنفي عن أمّتها، وعن نفسها، رذيلة الجهالة والجهل وبشكل واثق وسلوك شعري حكيم كما يجهر بذلك عمرو بن كلثوم في معلّقته الشهيرة: « ألا لا يجهلن أحدٌ علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا ». من هنا تشترك هذه القصيدة مع قصيدة النثر في معيار خيارها الفوضوي، وهو خيار يطلب حرّية وانعتاقاً من قيود تعطّل أو تزري بجفائها إجحافاً بحق الآخرين. شاعر يغزو لا متجرِّداً مِن خُلق أو مروءة هو القادم من قبيلة أو فخذ، لكن ليُنجي من قساوة الغبراء وذئبيّة الليل بصحاريه وغابته الجائعة، مُلامساً أوجاع الساعين والسارين من ذوي الحاجة في بطحاء الزمن ورمضاء القلوب. ولعلّه كان يبطش إذ يبطش جبّارين حسب قوانين المنافسة ومضاربات تلك الأيام.يحصد مالاً كوجيدة أو ينول استحقاقاً بالشعر ومغنماً ميسوراً يثري بشاعره ويرفعه منزلة دون كلفة أو ابتذال . فإن هو قصد سبيلاً للإغارة يكون الشاعر منظّمة إغاثة إنسانية لكثير من الناس في التيه وهاويات الطريق... فتارة يترك قصيدته وشأنها ليخوض تجربة مدنية طوعية وإنسانية من نوع آخر . فإذ يُغير وهو الشاعر الفارس حسب ما تقتضيه نواميس سياقه لا ليثري أو ليطمعَ بل ليُطعِمَ أفواهاً ويرسم ابتسامة في نتاج مهمة يراها البعض «جاهلية» ويلفيها الشاعر خياراً أسمى له لكرم يُخفيه إذ يتصدَّق، وموقفاً لا يهابهُ أو يُخيفه في مواجهة . وبالخصوص كلما رأى في ذلك سبباً في كرامة عيش آخرين سواء بجائزة استحقّها أو أعطية لا تنزله سوى ما أراد دونما دجل أو مدح. وحتى لو أسدى ذلك من ثمار أسلاب يتحصّلها من تجّار حرير وشاه بندرات قد يراهم ربّما يتملّكهم الجشع حدّ التخمة فلا يشعرون وهم أهل أموال طائلة بحلكة أحوال مَن حولهم . لقد رأى الشاعر «الجاهلي» في ذلك تصويباً لحصد خراجات لا يكون له منها غالباً حتى الغلبة في التظاهر. هو الذي لا يحب سوى ما أتى أكله الناس بالمَشاع الطيّب. يختار أن ينتبذ فخاً أخلاقياً ليصيد أسلاباً أو يشعل القِرى في الصحارى كشارةٍ وعلامة لكرم باذخ دون فخار أو مهرجان دعاية. هي نار الشعر إذاً ليهتدي الضالون من جياع الدروب المقفرة،يدركها فقراء وغاوون كثر ومستمعون وقارئو صيت وصمت وشاهدو معارك وبطولاتِ أندادٍ وجهاً لوجه . والشاعر هو كذلك الناثر عطاءه لروّاد ورواة ذكره وواردي قصيدته: أعني قصيدة النثر «الجاهلية» باذخة الألسن. قصيدة النثر التي سبقت هشاشة التنظيرات لها ولم تواكبها، بقدر ما رافقتها في سياقات متعدّدة. فحين مات النقد وهمد القريض، بقيت هي حيّة في الذاكرة الاستعادية للمعنى وأفق الترجمة العالمية . إنها قصيدة نثر بامتياز حداثتها الطالعة من فطرة ورؤية وندرة شعرائها. تخطّت حواجز التراث ولم تفخر بتراكماته فأعطبت مراحله الشعرية لتُبقي على صيرورتها في الزمن. حالة شعرية مختلفة ودامغة لما دونها وما تلاها من رواية العجز والصدر لقصائد جلّها صدرت عن أيديولوجيا كذبة البحر الكامل لصاحبها الخليل بن أحمد . ويكفي أن رؤية الشاعر في معظم نماذج تلك القصيدة - المعلّقة على ندرتها، كتبت بحرّية ما رأته ورآه شاعرها في صورة الأبعاد مُتوِّجاً مِخياله بفروسية الشعر وفراسة اللغة . التصنيفات السياسية لأغلب النقّاد العرب التراثيين والحديثين منهم اليوم، ظلّت تُراوح ما بين إشاعة فضول نزعاتها المتأخّرة، وسَوق أحكام غير أدبية وفنّية بالضرورة، ولا تتَّسق بشكل أو بآخر مع طموح الشعر، بينما تجهد في صنع الأنماط وتكريسها، ووضع قوالب ومراتب وطبقات للشعر والشعراء ولا تزال تمضي في تكريس سلطاتها كتمييز نظرتها الطبقية تجاههم، وهو ما استطاعت قصيدة الشاعر «الجاهلي» أن تنأى بعيداً عنه، نابذة كل مُتسوِّل باسمها وفي محيطها من نقدات الكواسر وطيور الميتات، ليبدو شاعرها بسيطاً وفارسَ خيل وخَيَال في القصيدة كما في واقع وبطولة سينما الصحراء ومنعرجات اللوى. شاعرٌ واضحٌ هو ذلك الصعلوك الخارج على «جاهلية» سياقاته، شاهراً لغته الأثيرة وتمرّده العالي في جمالياته ومواقفه القريبة من مودّة الإنسان والرأفة بالمظلومين، وشاهراً خياله في التصوير ولغته غير المهادنة، ومبتكراً بسحر خياله شعراً فارقاً: « وليلٍ كموج البحر أرخى سُدُولهُ عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي ». إن صورة الليل في شعر امرىء القيس على نحو ما سبق لا توازيها في العمق حتى اللحظة صورة في شِعر العالم بمثل ذلك التصوير. تلك هي القصيدة وذلك هو الشاعر، الكاسر لقوالب التنظير ومحدّدات وأحكام «الطغاة النقدة» من زعانف اليوم وسلطة المؤسسات وتأثير الدعارة السياسية باسم الثقافة والشعر الفضائي الإعلامي بمهرجانيّاته الرثّة وألقابه ومفاهيمه أحادية القطب ك«شاعر البلد» أو «المليون» وغير ذلك مما تتولاه أصولية النفط في المنطقة...