**إن العمل الفني الذي لا يعارض القيم الإنسانية.. فهو بهذا عمل إسلامي في ظل غياب الرؤية الإسلامية للحد الأدنى من القدر الواجب توفره عن “الفن الإسلامي” (وأقصد به هنا تحديدا السينما والمسرح والدراما التليفزيونية)، ليس ممكنا أن يتصدى مثلي لمحاولة وضع ضوابط محددة من أي نوع تساهم في تحديد الفن الإسلامي.. ولكن ما بدأناه في المقال السابق الذي نشر قبل اسابيع عن وجود فعلي “سينما إسلامية إلا خمسة“، يجعل من الضروري أن نحدد ما هي هذه السينما التي وضعنا لها اسم إسلامية إلا خمسة. يرى الدكتور عبد الوهاب المسيري –رحمه الله- أن مبدأ “الفن للفن” أو “الأدب للأدب” هو من تجليات وآثار وتطبيقات “العلمانية الشاملة”، تلك العلمانية التي تنفي وجود الإله أو سيطرته وتدخله في الحياة تنسف –بشكل تلقائي- وجود مرجعية أخلاقية أو قيمية يُنظر للعمل الفني أو الأدبي من خلالها، وبالتالي يتم تقييمه بناء عليها، هل هو جيد أم سيئ، ضار أم نافع؟ وهذا كلام لا أحسب أحدا يعترض عليه، وهو توصيف دقيق للأساس الفكري الذي أنتج أعمالا عبثية وتدميرية بل ومثيرة للاشمئزاز والقرف، وكان الشعار المرفوع هو “الفن للفن” و”الأدب للأدب” و “لايجوز الحكم على العمل الفني بمعيار غير فني (ديني أو أخلاقي أو غيره).. وأمثال هذه العناوين، وكنت قد كتبت من قبل أن أقرأ للمسيري، عن وجهة نظر أخرى في شعار “الفن للفن” و”الأدب للأدب”، وهي وجهة تنطلق –فيما أرى- من أرضية إسلامية خالصة، لا علاقة لها بالمسار الفكري للفلسفة الغربية التي أنتجت هذه المبادئ العلمانية، وخلاصتها، أن الفن أو الأدب لا يجب أن يحمل “قيمة إسلامية” لكي يكون فنا إسلاميا أو أدبا إسلاميا، بل يمكن أن يحمل هذه الصفة ما دام هذا الفن أو الأدب يتحلى بصفة “الجمال” ولا يتصادم مع المحرمات الشرعية اليقينية، بمعنى أن القصة أو القصيدة لو أبدعت في وصف النحلة أو الفراشة وفقط، فهي بهذا فن إسلامي، بمعنى أن الإسلام يقبله ولا يرفضه، حتى لو لم تختم القصة أو القصيدة بعبارة “فتبارك الله أحسن الخالقين” أو “هذا خلق الله”. صحيح أن خاتمتها لو كانت على هذه الشاكلة فهو فن إسلامي وأدب إسلامي واضح، ولكن الذي نناقشه هنا هو ما لو كان الجمال وحده هو السمت البارز للعمل الفني من دون أن يشير صراحة إلى قيمة إسلامية أو خلقية.. فالفن الإسلامي –فيما أرى- هو الفن الذي لا يحتوي على محرم، وليس شرطا لأن يتصف بالإسلامية أن يحتوي على قيمة وعظية واضحة.. وبناء على هذا، فيمكن أن نتقبل جدا أن يكون “الفن للفن”.. “الفن للمتعة”.. “الفن للجمال”.. بل وأن نتبناه ونسعى لإنتاجه ونستمتع به، سواء صدر من المسلمين أو من غيرهم، طالما أنه –لمرة أخرى- لا يصطدم بمحرمات إسلامية. لأن الجمال نفسه قيمة إنسانية، بل وقيمة إلهية موجودة في خلق الله، بل إن مخلوقات الله تعالى لا تؤدي وظيفتها فحسب، وإنما تؤديها بجمال. (انظر: التربية بالجمال) وعلى هذا التصور، يصبح ما نتحدث عنه من سينما “إسلامية إلا خمسة” يعني الآتي: • أن العمل الفني جميل بطبيعته، وهو في صلبه لا يعارض القيم الإنسانية.. فهو بهذا “عمل إسلامي. •أنه عَبَّر عن هذا الجمال بأسلوب فيه تصادم بالمحرمات الإسلامية، سواء على مستوى النص أو على مستوى الصورة. •أن هذا التصادم مع المحرمات الإسلامية يسير، فهو لا يستغرق العمل الفني كله أو أغلبه، وليس من صلبه، ويمكن ببعض الجهد تصحيحه ليصير إسلاميا خالصا. المطلع على تاريخ العلوم يعلم، أن العلم يوجد أولا، ثم يُدون ويكتب، ثم يقسم ويصنف، وتوضع له المعايير والضوابط، ثم يتوسع. وأزعم أن هذا التعريف لايشذ عن هذا. فالأفلام التي أسميها “إسلامية إلا خمسة” هي أفلام جميلة في جوهرها، بل ومفيدة ونافعة، غير أن ما اعتراها من مشكلات يسيرة تجعلها “إلا خمسة” ناتج عن ظروف كثيرة، منها درجة إلمام صانعي هذه الأفلام بالإسلام، أو جرأتهم على تحدي الوضع الحالي لسوق السينما الذي يوصف بأنه لابد لكل فيلم من “بهارات = مشاهد مخلة، أو تلميحات فاحشة”، أو قناعتهم أصلا بإمكانية أن يوجد فيلم إسلامي منضبط يحقق نجاحا جماهيريا، أو غير هذا من الأسباب. وبناء على هذا المفهوم، فإني أرى أن أفلام الإثارة الحركية كلها تعد إسلامية، كذلك أفلام الخيال العلمي مالم تتعرض لمبدأ الخليقة ومبدأ ما بعد الموت بشكل يصادم الرؤية الإسلامية، وكذلك الأفلام العلمية والاجتماعية. فحيث إن الإسلام نزل شاملا لكل جوانب الحياة فنستطيع أن نقول -من زاوية أخرى- إن الحياة كلها هي الإسلام، فيما عدا تلك التشوهات التي لا تتفق معه.