لاتزال تلاحقني وتأسرني تلك الصورة الفنية المعبرة التي أبدعتها ريشة الربيع العربي المضمخة بآلام السنين ودموعها، ذلك المواطن التونسي الذي يشير بعفوية وبراءة إلى سجل الزمن على شعره الفضي قائلاً في فرحة ممزوجة بحرقة واضحة: «لقد هرمنا.. هرمنا.. هرمنا»، وهو يقصد أنه -والأمة العربية- ولدت وشبت وشابت وشاخت وهرمت وهي يزين لها أن لا خلاص ولا أمل ولا تغيير، وأن إصلاح الحال من المحال، هرمنا -كما قال قريب البوعزيزي- ونحن ننتظر ونحلم بلحظة الخلاص من تلك الأنظمة القمعية التي خنقت بأيديها -القذرة- بلدانها، واغتالت فجر الأمل -أو هكذا ظنت لجهلها وغرورها-، يا لها من صورة فنية رائعة تفيض بالإحساس والمشاعر، إن سر جمالها وبلاغة رسالتها -بلا شك- كامنة فيها، ولكن هنالك جانباً آخر من جمالها الحقيقي الذي قد يغفل عنه كثير، وهو ذلك الحس والذوق الفني المرهف لذلك المصور البارع، فهو من اقتنص بكاميرته الحقيقة -كما هي- مبرأة من: تكلف الممثل وتزويق المخرج ومبالغة الإعلام الرخيص أو المبتدئ، والله ما أنصف من قال: إن الصورة تغني عن ألف كلمة، بل إن الصورة الفنية -وهذا مثالها الحي النابض بين أيدينا- أكثر بلاغة من ألف ألف كتاب وألف ألف قصيدة وألف ألف آهة ودمعة، ونهدي تحية امتنان وإجلال وتعظيم لصاحب هذا الحس الفني المرهف، وياللعجب الذي لاينتهي كيف أنقذ -هذا المصور الفنان الموهوب- بضغطة زر سريعة موقفاً عابراً من سيف الفناء وقدر النسيان، وأحله منزلاً مكرماً عالياً في صرح الخلود!؟ ها هو صقر الربيع العربي الحر ينشر جناحيه، ويحلق بعيداً نحو بلاد بلقيس ومأرب ومعاذ وأويس والشوكاني والبردوني، صه..صه.. وأصخ السمع لذلك السحر الحلال في نشيد ذلك الفنان اليمني المسمى: «محمد الأضرعي»، الذي يقول في أحد إبداعاته الربيعية باللهجة اليمنية الأصيلة كلاما جميلا يصف فيه الأوضاع السابقة ألا ما أجملها من كلمات كان لها أثر مساند ومعين لتلك الجموع أثناء اعتصامها الطويل والمضني في ساحة التغيير بصنعاء وغيرها!؟ وما أجمله من لحن، ومما يزيد جمال اللحن وكلماته هو استيحاؤه -بعد تحويره وتحريره- من أغانٍ وطنية قديمة دبجتها -بلا خجل- أقلام بعض المنافقين والمأجورين والمغرر بهم في ذلك الزمن البائس، ولنوفي هذه الأنشودة حقها، ولنبين روعة أدائها وأسلوبها الساخر، فإنني أدعو القارئ أن يشاهدها ويسمعها على هذا الرابط على الشبكة المعلوماتية: http://www.youtube.com/watch?v=gg9xVxjiumU. أمل مثلوثي، فنانة وعازفة قيثار مبدعة من تونس البوعزيزي (رحمه الله رحمة واسعة)، تونس حيث مهد الربيع العربي، ومحضن أولى شرارته المباركة، لا تداعب أمل بأناملها الرقيقة أوتاراً -فحسب- على قيثار خشبي جامد هامد، إنما تداعب مشاعر أمة بأكملها، وتهيج أشجانها الكامنة، وتحررها من ليلها الطويل، استمع إليها وإلى كلماتها البسيطة والمشحونة بسيل من دماء الثوار وطالبي الحق والحرية في لقاء خاص مع إذاعة BBC (http://www.bbc.co.uk/programmes/p010lvnz)، والتي احتفت بزيارتها إلى عاصمة الضباب لندن، غنت أمل مثلوثي التونسية هذه الكلمات المعطرة بأريج الأمل، وأهدتها -زهرة أمل وتحد لا تذبل أبداً- لكل الظالمين في كل مكان وزمان، وتخبرنا أمل بأنها استوحت بعض معاني أغنياتها من قصائد الشاعر الفلسطيني العملاق: محمود درويش، ولقد عاهدت نفسي ألا أدنس طهرها ونقاءها وأن انقل كلماتها لكم كما هي لتهزكم كما هزتني: «اقتلني.. نكتب غناية، اجرحني.. نغني حكاية، زدني.. من العذاب، اقتلني.. نكتب غناية، اجرحني.. نغني حكاية، زدني.. من العذاب