يقول الشيخ عبد الرحمن الكواكبي في مقدمة الكتاب إن: (كلّّ يذهب مذهباًً في سبب الانحطاط و في ما هو الدواء. وحيث أني قد تمحص عندي أن اصل هذا الداء هو الاستبداد السياسي و دواؤه دفعه بالشورى الدستورية . وقد استقر فكري على ذلك - كما أن لكل نبأ مستقر - بعد بحث ثلاثين عاماً... بحثا أظنه كاد يشمل كل ما يخطر على البال من سبب يتوهم الباحث عند النظرة الأولى انه ظفر بأصل الداء أو بأهم أصوله , ولكن لا يلبث أن يكشف له التدقيق أنه لم يظفر بشيء . أو أن ذلك فرع الأصل , أو هو نتيجة لا وسيلة. فالقائل مثلاً : إن أصل الداء التهاون في الدين , لا يلبث أن يقف حائراً عندما يسأل نفسه :لماذا تهاون الناس في الدين ؟ و القائل : إن الداء اختلاف الآراء , يقف مبهوتاً عند تعليل سبب الاختلاف فإن قال سببه الجهل يشكل عليه وجود الاختلاف بين العلماء بصورة أشد و أقوى .. و هكذا يجد نفسه في حلقة مفرغة لا مبدأ لها فيرجع إلى القول : هذا ما يريده الله بخلقه , غير مكترث بمنازعة عقله و دينه له بأن الله حكيم عادل رحيم ...)ما هو الاستبداد؟ و يقول الكواكبي في فصل :ما هو الاستبداد معرفاً ( لغة.. هو غرور المرء برأيه و الأنفة عن قبول النصيحة أو الاستقلال في الرأي و الحقوق المشتركة . و في اصطلاح السياسيين ،هو تصرّف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة و بلا خوف تبعة , وقد تطرأ مزيدات على هذا المعنى الاصطلاحي فيستعملون في مقام كلمة ( استبداد ) كلمات : استعباد, و تسلّط , وتحكّم . و في مقابلتها كلمات : مساواة , و حس مشترك , وسلطة عامة . و يستعملون في مقام صفة ( مستبد ) كلمات جبار ،طاغية , و حاكم بأمره , وحاكم مطلق . و في مقابلة( حكومة مستبدة ) كلمات : عادلة , و مسؤولة , و مقيدة , و دستورية . و يستعملون في مقام وصف الرعية ( المستبد عليهم) كلمات : أسرى , و مستصغرين , و بؤساء . و مستنبتين . و في مقابلتها : أحرار , و أباة . و أحياء , و أعزاء . و أما تعريف الاستبداد بالوصف لا بالمترادفات و المتقابلات فهو: أن الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلاً أو حكماً التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين . أشد انواع الاستبداد التي يتعوّذ بها من الشيطان هي حكومة الفرد المطلق , الوارث للعرش , القائد للجيش , الحائز على سلطة دينية. و لنا أن نقول كلما قلّ وصف من هذه الأوصاف خف الاستبداد إلى أن ينتهي بالحكم المنتخب المؤقت المسؤول فعلاًوأورد الكواكبي شذرات مما:(.. تكلّم به بعض الحكماء لا سيما المتأخرين منهم في وصف الاستبداد و من هذه الجمل : المستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم و يحكم بهواه لا بشريعتهم , و يعلم من نفسه انه الغاصب المعتدي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق و التداعي لمطالبته المستبد عدو الحق , عدو الحرية و قاتلها , و الحق أبو البشر و الحرية أمهم , و العوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئاً , والعلماء هم إخوتهم الراشدون , إن أيقظوهم هبوا و إن دعوهم لبوا و إلا فيتصل نومهم بالموت.