يحاول أن يغسل بدموعه أوجاع تاريخ بأسره. يحلم بوجه مكتمل لوطن أرهقته الحروب. بقلب طفل يوزع كلماته على العصافير يعلمها أن تطير من دون أجنحة. يدس في جراح الشمس بذوراً ، يقول : إنها ستكبر.. وسيكتب الأطفال فوق جذوعها أسماءهم. بوجهه الأسمر كرغيف خبز.. وعينيه المتعبتين.. هو من سيستبدل جراح الفقراء بالورود، وأحزان الأمهات بالأغاني. لم يدس بقدميه على رماد بشر.. لم يصافح يداً ملوثة بدم.. ولم يملك أكثر من قلبه.. أبدا.. لم يغمض عينه فقد كان يعرف أنه حينما ينام؛ ينام وطن بأسره. رغم عمره الطويل لم يزل يذكر جيداً ذاكرته.. كيف كانت تفتش في المطارات والمعابر..! لقد نجا من ست حروب، واستطاع أن يكبر في زمن؛ كان فيه جميع الناس يصغرون..! البوذي الذي قدس نار الشعب، والأفريقي الذي قبل جبين الصباح. لحيته التي جزها.. سد بها جحر ثعبان، ونظارتاه.. أهداهما لحلزون ، ليعرف طريقه إلى البيت. هو المليء بالعصافير.. لا أحد جاءه إلا وعاد بأغنية..! مازال بلسانه يلمس كل صباح جمرة الوطن؛ كلما توهجت حن إلى لمسها أكثر. أقرباؤه.. لم يصدقوه بأن العجل الذي يسجدون له خواره يخرج من الدبر..! لم يحلم بأكثر من بيت صغير لم يوصِ أبناءه إلا بأن يحتفظوا بجسده كما هو.. شماله جنوبه،وجنوبه شماله. طالما قالها : قلب واحد، ووطن واحد، ورب واحد. هو العائد من زمن الذين عند صيد الطريدة يندبونها، وقبل شنق القاتل يقبلونه. لم يخرج من قلبه إلا ليعلم الناس.. كيف يمكثون داخل قلوبهم فترة أطول..! البدوي الذي أضاع شبابته، والعجوز الذي أضاعته القافلة. قلبه الأخضر.. كلامه الأزرق.. أنفاسه البيضاء.. نشيد وطني لشعب استطاع مؤخراً أن يقنع الله بضرورة تأجيل موته. هو المظلل بماء الرحمة.. المكلل بتاج الألم.. لم يكن يوماً شهوة جلاد بل ضحكة أم. لم يفرق بين حدود جسمه وحدود وطنه. لم يسترق السمع ليقول إنه نبي. ولم يطرأ على ذاكرة الوقت.