فليسترح الآن قلبك الوحش، لقد لعبتِ كثيراً اليوم.. كنتُ أغني دون أن أسمع صوتي. هويتُ من خوف ملؤه الريبة إلى خوف ملؤه اليقين المطلق. كان بمستطاعي الغناء كما تغني المياه. ربما جاءني اللحن من غناء جدتي في خَرَفها. ربما كنت أعرف الألحان التي أضاعتها عندما فقدت عقلها. ربما توافدت الأشياء الراقدة في دماغها وعبرت بين شفتي”. يقول الأب لطفلته: “لا تأكلي الخوخ الأخضر القاسي لأن بذوره الطرية ستقتلك”، ولكنها ترى الشبان الذين يهربون من الأرياف ليصبحوا أعضاء في شرطة المدن وهم يأكلون الخوخ الأخضر بشراهة فلا يقتلهم، بل يجعلهم حمقى يستخدمون “النار السامة للبذور الطرية” كي يرعبوا الناس المذعورين. “ أثناء تجوالي لم أشاهد المعتوهين ومقتنياتهم الزهيدة فحسب، وإنما رأيت أيضاً الحراس وهم يسيرون في الشوارع صعوداً وهبوطاً. شبان ذوو أسنان مصفرة يقفون حراساً على مداخل بنايات كبيرة، خارج المحلات، في الساحات، في مواقف الباصات، في الحديقة العامة التعيسة، أمام المهاجع، في الحانات، خارج محطة القطار. بدلاتهم لا تناسبهم؛ فهي إما فضفاضة أو شديدة الضيق. كانوا يعرفون أين تقع أشجار الخوخ في كل منطقة يحرسونها. بل كانوا يسلكون طرقاً ملتوية كي يعبروا بتلك الأشجار. كانت الغصون مثقلة بالثمار، والحراس يملأون جيوبهم خوخاً أخضر يقطفونه على عجل فتنتفخ جيوبهم. كان قطافٌ واحد يكفيهم وقتاً طويلاً. وبعد ملئهم جيوبَ ستراتهم يتغاضون عن الأشجار ويسرعون خطاهم. كانت عبارة ناهش الخوخ بمثابة الشتيمة. وكانت تطلق على محدثي النعمة والانتهازيين والمتملقين وأولئك الذين يدوسون جثث الموتى دون ندم، كما كانت تطلق على الدكتاتور أيضاً”. القرويون المشردون يحملون ذكرياتهم ويضعونها في أشجار التوت التي جلبوها وزرعوها في أفنية المدينة، غير أنهم يحملون أريافهم في وجوههم أيضاً. الرعاة الهاربون من الريف كي يعملوا في المصانع ينتجون خرافاً من القصدير، والفلاحون يصنعون بطيخاً خشبياً. والعاملون في المسالخ يشبعون أنفسهم خلسةً من دماء الحيوانات، وأطفالهم هم شركاؤهم: “عندما يقبلهم آباؤهم قبل النوم، تفوح من أفواههم رائحة دم المسالخ، فيرغبون مثلهم بالذهاب إلى هناك (….) كل أسبوع، كان كورت يخبرني عن المسلخ، حيث يشرب العمال دماً دافئاً عندما يذبحون الحيوانات ويسرقون لحومها وأدمغتها. أطفالهم وزوجاتهم يتواطأون معهم، قال كورت. تستخدم الزوجات ذيول البقر القاسية لمسح الغبار، بينما يلعب الأطفال بالذيول اللينة”. “الجميع هنا قرويون. رؤوسنا غادرت قراها وأقدامنا تقف الآن في قرية مختلفة، لا يمكن أن تكبر أية مدينة في ظل حكم دكتاتوري، لأن كل شيء يبقى صغيراً عندما يخضع للمراقبة”. فالكاتبة تعود مراراً إلى التقويض الذي يسببه الخوفُ الطويل عارُ الإنسانية، الخوف الذي يدمر الإرادة ويشلها، ويحجر على حواس الفرد وعقله، وينهك مقدرته على الاحتفاظ بأبسط علاقاته الإنسانية. “عندما رفعتُ البطانية كي أستبدل الغطاء، عثرت على أذن خنزير في منتصف الشرشف. تلك كانت طريقة الفتيات في الوداع. هززتُ الشرشف ولم تتحرك الأذن، فقد كانت مخيطة إلى وسطه مثل زرّ”. في ختام الرواية تتساءل الراوية فيما إذا كانت قد تعلمت شيئاً من الحياة: “لقد آلمني موت تيريزا أشد الألم وكأن لي رأسين أحدهما يحطم الآخر؛ أحدهما مليء بالحب المجزوز، والآخر مليء بالكراهية. أردت أن ينمو الحب من جديد، لكنه نما كالعشب والقش المختلطين معاً، واستحال برهاناً جليدياً يعلو حاجبي”.