اقتضت حكمة الله أن يخلق الإنسان حُراً ..مفطوراً على الحرية ..ويلاحظ هذا من خلال الآية الكريمة ( إني جاعُلٌ في الأرض خليفة) ولا شك أن الملائكة أدركت مواصفات هذا المخلوق أنه يجمع بين الشهوة والعقل – صفة بهيمية ، وأخرى ملائكية ..وهنا تساءلت الملائكة أن جمع النقيضين في هيكل واحد أدعى إلى حصول صراع مع الذات أولا ً ومع الآخر ثانياً، فجاءت الإجابة من المولى الحكيم : « إني أعلمُ ما لا تعلمون ». وإذن فحكمة الله اقتضت وجود هذا الخلق – الإنسان – الذي يحمل العقل (حرية الاختيار) وأنزل الشرائع كإرشاد لهذا الإنسان كيف يتعامل مع حياته دنيا وأخرى علماً بأن هذا المنهج الإرشادي متروك للإنسان حرية اختيار دون إكراه ..ولأن من مكونات هذا المخلوق البشري – الشهوات ...فلا شك أنه سيقع في (شَرَك) الشهوات عمداً أو خطأً مهما كان ملتزماً بالمنهج الإرشادي الإلهي ؛ لأن الله هو العليم بما يُصلح هذا المخلوق وما يفسده فقد جعل جزءاً من هذا المنهج – الكتالوج – الإرشادي عوامل تساعد هذا الإنسان على تهذيب شهواته وغرائزه ، وهذا يعني أمرين . الأول : أن الإنسان خُلق حُراً ،ولا بد ضرورة أن يبقى حُر الإرادة والتفكير . الثاني : بما أن الإنسان – لديه شهوات ، فلا شك أنه سيقع مسيراً لها – عبداً تسيّره غرائزه البهيمية ، وقد يصل به الحال إلى السقوط في حال أسوأ من البهيمية – [إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل] من هنا جاءت الشعائر التعبدية – التزكية – لتساعد على تحرير الروح من طغيان الشهوات ، ذلك أن تحرير الروح يتم عبر تحرير الفكر والتصور – عدم الخضوع لأي مخلوق – وهذا هو الجانب النظري ، وتأتي التزكية بأنواعها كجانب ممارسة وسلوك . والهدف العام للجانبين النظري والسلوكي : هو التحرر من أي سلطان داخل الذات أو خارجها – عدا سلطان الله الذي أرشده إلى ما يصلحه ، ويصلح سبل حياته مع الغير بمعنى أكثر وضوحاً – الهدف العام للعبادات هو العيش بسلام مع الحياة من حوله بيئة وإنساناً ...ولا عيش بسلام ...إلا إذا تحرر الروح أولاً من طغيان غرائزه وشهواته ، ثم إن تحرير الروح يتم بأمور كثيرة ، ولكنها تدخل تحت ثلاثة محاور ، محور القوى البهيمية – شهوات ، أكل وشرب ، نوم ، جنس ، ومحور القوى السبعية – ظلم ن بطش ، عدوان ...الخ المحور الثالث ، محور القوى الغضبية ، وهذه المحاور الثلاثة متداخلة متظافرة ...وعلاج هذه كلها يتم في عبادة الصوم . فالغرائز البهيمية تُهذب بالجوع ويصبح الإنسان ملك أمر نفسه يقودها هو لاتقوده ، ولأن الصيام غايته وهدفه هو التقوى ، فإن غريزة التسلط والبطش والظلم والعدوان تتهذب بالصوم ، فالصائم الحق هو المتقي للمحارم . وإذا تمكن الإنسان من السيطرة على الغريزة السبعية ، لا شك أن القوة الغضبية هنا ستكون قد تهذبت ..بمراعاة التقوى أولاً. ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الصائم ألا يغضب ...إذا ما حصل له استفزاز من آخر ..فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله فليقل إني صائم ..وإذن فهذه أصول التحرر . ولنا في الحلقات القادمة وقفات مع مظاهر أخرى لا بد أن يتحرر الصائم منها، فالصوم دورة تدريبية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.