قبل أكثر من عقد ونيف كانت لليمن قناتان فضائيتان حكوميتان فقط, لم تكونا آنذاك تلبيان احتياجات “جمهورها”, المتعطش إلى رسالة إعلامية خدمية, تعطيه ما يريده وما يحتاجه, وتنمي فكره تعليمياً وثقافياً, لقد كانت السياسة الداخلية بكل الأوقات جل مخرجات تلك القناتين, أو بصيغة أخرى يمكن القول إن إعلام الأمس كان يكرس جل وقته, في تلميع أشخاص لا يتجاوزون فضائيات وطننا اليوم. لكن ورغم ذلك لم يكن “المتلقي” اليمني لينفر من تلك القناتين, بل كان منبهراً بما تبثه له, لعدم ألفة وانفتاح البعض بعد للفضائيات الخارجية, أو لانحصار البعض الآخر في مشاهدة القناتين على البث الأرضي, بسبب التكلفة الباهظة لجهاز استقبال الفضائيات من على الساتل حينها, غير مدركٍ لمخاطر التعبئة السياسية الزائفة, التي لم تقتصر على إرهاصه فحسب, بل “والوطن” بأكمله. كائن سلبي ومع مرور الوقت منذ ذلك الحين حتى اليوم, تحقق حلم “المتلقي” اليمني, بتنامي وتعدد القنوات الحكومية والخاصة الساعية وراءه لكسب متابعتها, إذ تجاوزت جملة بالنصف أعداد أصابع يده, لكنها في الحقيقة لم تكن لتختلف مع سابقتيها, في تكرار نفس النمط السلبي. ولا أقول ذلك من منظور أحادي وإنما وفقاً لاستطلاع كنت قد أجريته قبل فترة ليست ببعيدة, مع عينات من طلبة كلية الإعلام وقسمي علم الاجتماع والعلوم السياسة بجامعة صنعاء, حول ماهية الاختلاف بين إعلام الأمس واليوم, لكني وكما كنت أؤمن لم أجد أية مفارقة بين ذلك, إذ ترى العينات أن جميع قنواتنا الرسمية وغير الرسمية على حدٍ سواء, لم تنظر ولازالت إلى “المتلقي” لمضمونها, إلا لمجرد كائن سلبي, يؤمن بكل ما يشاهده سلبياً كان أم إيجابياً, مستمدة ذلك من نظرية الرصاصة التي تسعى إلى إخضاع “المتلقي” لرغبات صناعها وليس العكس. الحقيقة والخداع وما أثار إعجابي وطمأنتي أن العديد من المواطنين العاديين ممن أصادفهم إما في الأسواق أو في وسائل المواصلات وغيره, يعتقدون أن قنواتنا الفضائية لم تدرك أن الإعلام الخارجي اليوم, بات مفتوحاً للجميع, وبأن جهاز استقبال القنوات الوطنية من على الساتل, هو نفسه الجهاز المستقبل للفضائيات الخارجية, بدون أي عناءٍ أو تكلفة, كما أنها لم تعي بأن هذا “المتلقي”, لم يعد ذلك الكائن السلبي المعهود في الماضي, بل أصبح آدمياً ذكياً يميز بين الحقيقة والخداع, يفهم معاني الرسالة ويفك رموزها, فأضحت هي السلبية بنظره, لما رأى فيها من واقع يعكس الماضي بل وأشد منه.. كيف لا، وإعلامنا - إن صح تعبيري ليس إلا إعلاماً سياسياً حزبياً بحتاً, أيديولوجياً متصارعاً فيما بينه, يخدم أفراداً لا مجتمع, غير آبه “بوطنه” أو مبالٍ “بجمهوره”, اللذين هما في الأساس رأسي ماله. واجهات سياسية أكثر منها مهنية ويؤكد لي مدير عام المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون سابقاً, وأستاذ التخطيط البرامجي التلفزيوني والإذاعي بكلية الإعلام في جامعة صنعاء, الدكتور عبدالله الزلب, بأن السلبية في هذه القنوات, تكمن في أن من يديرها ينطلق من زاوية شخصية, حسب عمله سواء في التخطيط البرامجي وفي توظيف الكوادر وفي وكل مراحل العمل الإعلامي, وكما هو الحال في أن معظم المؤسسات الإعلامية والقنوات الوطنية, ليست إلا مجرد واجهات لشخصيات كبيرة, وأيضاً هي واجهات سياسية أكثر منها مهنية, تخدم مجالات حتى أخرى. - ويتأسف الزلب قائلاً: إن السياسة تطغى على الكل وخاصة على الخطاب المتلفز بشكل كبير جداً, وخير مثال على ذلك في أن هناك بعضاً من القنوات, انطلقت في البداية على مبدأ التخصص إما رياضية أو تعليمية, لكنها تسيست بعد ذلك, لأن من يديرها أصلاً هم أشخاص بعقليات ترادف عقليات مالكيها نتيجة لتفكيرهم بنفس الطريقة, فلا لوائح تحدد المهام ولا قوانين تنظمها, ولا توصيف وظيفي حسب التخصص, ولهذا وكما أوضح الزلب: إلى أن الموظف والقائم بالاتصال لا يجد نفسه إلا أمام خيارين أحلاهما مرُ, إما إتباعه للسياسة العليا للقناة والعمل فوراً على ترجمتها, وإما تقديمه الاستقالة قبل طرده, وهذا هو الجهل بعينه, والمشكلة الكبرى في “الشخصنة” التي تحتم على معظم مالكي القنوات, أن لا يعتمدوا على التخصص والاحترافية والكفاءة؛ بقدر ما يعتمدوا على الولاءات والقرابات التبعية. هجر معظمها ومن جل ما تم ذكره آنفاً يمكنني القول جازماً, أن العاقبة من نتيجة هذه السياسات الإعلامية الخاطئة المفروضة على هكذا قنوات, كانت سبباً في أن “المتلقي” اليمني سواءً كان في الداخل أم في الخارج هجر معظمها, لأنه بطبيعة الحال لم يجد فيها ما يشبع رغباته واحتياجاته الحقيقية, من توعية اجتماعية وتنموية اقتصادية وترفيه هادف وإلى ما ذلك, عدا التضليل المستمر له, بإخفائها للحقائق بل وتزييفيها إن تطلب الأمر, ما جعل “المتلقي” لهذه القنوات, خاصة وقد أصبح واعياً بكل المقاييس, على الأقل تجاه ما تقدمه له من مواد إعلامية سياسية سامة, لا يفضلها فحسب بل ويمقتها لا إرادياً. وما يجعلني أكثر يقيناً ومعللاً بذات اللحظة, أن ما يدل على واقع إعلامنا المرئي اليوم, من إفلاسٍ لبعض القنوات الأهلية أو الحزبية, وجمود للأخرى الحكومية, إلا لأنها لم تخدم “وطنها” ولم تحترم “جمهورها” ولو لمرة؟ّ!.