على وقع الأمواج الهادرة، و في حضرة التاريخ المتدفق بغزارة، وعند مجمع بحرين عظيمين كان لابد من التوقف لإلقاء نظرة فاحصة، وسبر أغوار المكان والزمان على نحو مختلف يبدو معه باب المندب أكثر من مجرد منطقة أو ممر مائي هام... لليمن بابان للوهلة الأولى يبين أن لليمن بابين... باب اليمن القائم في صنعاء القديمة، وباب المندب الواقع على البحر الأحمر وخليج عدن...الأول يدخل منه السياح والمستشرقون، والآخر يعبر منه الغزاة والطامعون...الأول ترحل منه كنوز الحضارة، والآخر تغادر منه ثروات الأرض...أنها مفارقة عجيبة ينبع فيها أغلى ما عندنا في مقابل أرخص ما عند الآخرين، ومع ذلك لابأس أن نسلي أنفسنا بعبق الأيام الخوالي أيام كان اليمنيون سادة البر والبحر، وكانوا يعرفون جيداً متى تفتح أبوابهم ولمن وماذا يدخل ويخرج منها...أيام كانت قوافلهم البرية تذهب وتجيء محملة بكل غالٍ ونفيس، وكانت سفنهم البحرية تعرف أحوال الطقس واتجاهات الرياح وخطوط الملاحة، والأهم من هذا وذاك أن حامياتهم كانت موزعة على طول خطوط التجارة وكانت ثروات الشرق والغرب تتقاطر عليهم من كل اتجاه، كما لم تكن الثروة بين قلة من الناس، كانت حالة الرفاه تشمل المجتمع كله أيام كان المجتمع كله هو البلد السعيد... بوابة الدموع على امتداد(20) ميلاً تقريباً وطوال الخط الواصل بين ساحلي آسيا وأفريقيا وعلى جانبي مضيق باب المندب تنطلق مخيلة المرء لتدرك معنى الارتباط القائم بين بحرين وتلامس العلاقة الواقعة بين قارتين فمن هنا وعبر الممر الحيوي الهام نشأت أقدم العلاقات الإنسانية وأكثرها تأثيراً في حياة المنطقة والعالم، فعبر هذه البوابة المشبعة بالأحداث والمسكونة بالذكريات كان دعاة السلام والتعايش يرفعون أصواتهم وعبرهم أيضاً كان دعاة الحروب والأطماع يدقون طبولهم...من هنا عبر الأحباش قديماً لغزو اليمن فامتلأ البحر بسفنهم وقواربهم المحملة بالمؤن والمعدات، ومن هنا أيضاً عبر الموت القادم من الضفة الأخرى حتى صار البعض يعتقد أن تسمية باب المندب مأخوذة من كثرة الندب أي البكاء على موتى الغزو وضحايا الحروب مشيرين بذلك إلى المعركة التي وقعت بين الأحباش وبين اليمنيين بقيادة ذي نواس الحميري في حين يرى آخرون أن المندب اسم لساحل مقابل لزبيد حيث يوجد هناك جبل ندب بعض الملوك الناس إليه ليقوم بتسويته ..أما تسميته ببوابة الدموع فإنه يعزى بحسب بعض الروايات إلى كثرة الفزع والموت الذي كان يعترض طريق البحارة القدماء عند العبور في مياه المضيق. داجاما يقتل العرب الاسم هنا قد لا يبدو مهماً بقدر أهمية المضيق وموقعه الاستراتيجي باعتباره كما أسلفنا أحد أهم الممرات المائية في العالم والمتحكم في طريق التجارة والملاحة الدولية ..نعم إنه موقع متميز وفريد جلب لليمن الكثير من الخير كما جلب لها وللأسف العديد من الويلات ففي العام 1468م وبحسب بعض المصادر التاريخية وصل فاسكو داجاما إلى السواحل الجنوبية للجزيرة العربية، وصل ومعه طمع البرتغاليين في نشر المسيحية والسيطرة على ثروات الشرق... في تلك الرحلة المشؤمة قام داجاما بالاستيلاء على سفن عربية وإغراق بعضها وقتل وأسر من فيها... كانت هذه الحادثة مقدمة لسلسلة طويلة من الاعتداءات والحملات والمؤامرات الدولية على مدخل البحر الأحمر والبحر العربي والجزر والمناطق المحيطة فمن البرتغاليين إلى الأسبان إلى العثمانيين إلى الروسيين إلى البريطانيين والفرنسيين والقائمة تطول كلهم جسَّد طمعه في السيطرة على المنطقة أو بعض منها لاجئين وطوال فترات متعاقبة وبحسب طرح البعض إلى ابتكار حيل وأساليب تمكنهم من بسط نفوذهم والسيطرة على هذه المنطقة ومنها على سبيل المثال: حادثة إغراق سفينة بريطانية قرب عدن أو الادعاء بمراقبة السفن لمنع تجارة الرقيق، أو تحت مبرر التجارة مع الموانئ القائمة على البحر الأحمر واستغلال الخلافات المحلية ودعم المشائخ والسلاطين مقابل استغلال المنطقة وأخيراً مسألة القرصنة وما يمكن أن تفضي إليه في حال صدقت الظنون حولها ووقع الفأس على الرأس. أكثر من مجرد ممر عمدت بعض القوى العالمية كما تؤكد بعض المصادر إلى إقامة العديد من القواعد من العسكرية قرب وحول باب المندب ..إنها قوى متأهبة على ما يبدو ولأي طارئ أو ربما متوجسة من بعضها البعض، أياً يكن الأمر فالمسألة تستحق كل هذا العناء فباب المندب يبدو أكثر من مجرد ممر مائي إنه بطاقة أمان للتجارة العالمية والأمن الإقليمي، أو يكفي أن نشير أن عدد السفن وناقلات النفط العملاقة التي تمر من خلاله سنوياً تتجاوز أكثر من “21” ألف سفينة وناقلة، وأن أهميته زادت عقب افتتاح قناة السويس عام 1969م بجانب ما تلاه من زيادة ضخ النفط من دول الخليج والعراق وإيران. من يسيطر على المضيق سؤال يلح في نفوس الكثيرين: من يسيطر على مضيق باب المندب؟ وبحسب تأكيد البعض فإن اليمن هو صاحب الأفضلية في السيطرة على الممر لامتلاكه جزيرة “ميون” وهي واحدة من أهم جزر المضيق ولها موقع متميز بجانب كونها تقتسم المضيق إلى قناتين تسمحان بمرور السفن بشكل ممتاز وفي اتجاهين مختلفين، كما أن اليمن قام فعلياً بإغلاق المضيق عام 1973م خلال الحرب العربية مع إسرائيل.. شخصياً أؤمن أن مضيق باب المندب جزء لا يتجزأ من اليمن، وشخصياً أتساءل: هل يستطيع أفراد اللواء “17” مشاة المرابطون في باب المندب فرض السيطرة على المضيق في حال حدثت حروب أو مواجهات إقليمية أو عالمية لا سمح الله.. صحيح أن القوات هناك في حالة من التأهب والجاهزية فهي قلقة من احتمال توسع نطاق القرصنة ووصوله إلى سواحل باب المندب بجانب سعيها لمواجهة أخطار التهريب، سيما ما يرتبط بتهريب المخدرات والأسلحة لكن يبقى الوضع مفتوحاً على أخطر الاحتمالات، ومن الضروري الاستعداد للقيام بدور أكبر في حال حدث مالا يحمد عقباه. من الحديدة إلى عدن الجبال الشاهقة الارتفاع والمطلة على المكان بشكل ملفت وبعض بقايا القلاع والحصون القديمة تنطق بأهمية الموقع وبخطورته في ذات الوقت، ولم يكن العثمانيون بدعاً من الرجال حين بنوا قلعتهم التي لا تزال حتى اليوم شاهدة على اهتمامهم بتحصين الممر وتأمين الحماية له من أكثر اتجاه.. قديماً أدرك اليمنيون أهمية هذا الأمر فكان أمن المضيق يمتد من الحديدة إلى عدن، ولعبت قلعة صيرة دوراً كبيراً في المساهمة في توفير الحماية للمضيق وللحدود البحرية اليمنية عموماً، ما أمكن اليمنيين من السيطرة على المضيق بشكل جيد وتنظيم حركة العبور فيه وتوفير المناخات الآمنة للسفن العاملة في مجال التجارة. على متن جزيرة ميون كنت قد قرأت سابقاً أن ملكة بريطانيا ملكة الامبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس قد نزلت ذات يوم في جزيرة “ميون”.. والأهم من ذلك أنها أقامت جزءاً من حفل زفافها على هذه الجزيرة، ملكة تلبس تاج دولة بحجم بريطانيا لم تكن لتنزل عبثاً في هكذا مكاناً، إنها على ما يبدو من ذلك النوع من الملكات اللواتي يقرأن التاريخ جيداً، فمن هنا أشرق وجه الملكة بلقيس أشهر ملكات الدنيا وأعظمهن عرشاً وأكثرهن مالاً وأغزرهن علماً وحكمة، وهنا بالذات كانت ملكة بريطانيا على ما أظن تحاول الاقتراب من عرش هذه الملكة الأسطورة أو دخول الصرح ولكن دون جدوى، فالملكة بلقيس تبقى ملكة الملكات والشمس كانت لا تغيب عن امبراطورية بريطانيا والتي ظلت أعناق الانجليز عاكفة لها طوال عقود من الزمن على طول وعرض المستعمرات البريطانية داست عليها بلقيس ذات يوم وتجاوزتها بساقيها الجميلتين إلى رحاب هو أوسع مدى من التاج وأطهر وأنقى من الزجاج. مخلوق برمائي المكان شاعري جداً، ومعبر جداً، لا تدري أيهما أجمل، وجهه البحري المنقوش على زرقة الماء المفتر ثغره عن ضحكات الصيادين، أم بره المطعم بحبات الرمل والمصغي لحديث الرعاة والعابرين.. الناس هنا بسطاء وطيبون، أيامهم على قدر أحلامهم، وأحلامهم على قدر أيامهم، وبمساحة “15” كم وعدد يربو على العشرين ألف نسمة تبدو مديرية باب المندب أشبه بمخلوق برمائي يتقن التعامل مع البحر والاستفادة منه والعيش من خيراته وثرواته، كما هو في “خور الشورى” عاصمة الصيادين، كما يجيد التعامل مع الحياة البرية ويتكيف معها معتمداً على قدرته وخبراته المتوارثة في الرعي وتربية الماشية والبحث عن الماء وبعض أنشطة أخرى، فلكل لحظة هنا قيمتها ولكل فرد دوره.. الجميع هنا لا يدرك أهمية المكان وإن كانوا جزءاً منه.. جزءاً من تنوعه وثراءه، المساكن المتواضعة، النظرات الحائرة، الطرق غير المعبدة كلها توحي بالبساطة الشديدة، البساطة هنا هي سيدة الموقف ولا مجال للاهتمام بأكثر من لقمة العيش. أين التنمية كل السفن تعبر من هنا أو ترسو على مقربة إلا سفينة التنمية.. يبدو أنها أضاعت الطريق، القرى المتناثرة، الأشجار الوارفة، القمم والكثبان، طلاب المدارس، الأمهات، الجزر العاتمة، الصيادون، الرعاة كلهم لا يلوون على شيء، الخط الساحلي أيضاً لم يشفع لمديرية باب المندب أنها تحتاج لأكثر من حجر أساس أو زيارة عابرة، تحتاج لالتفاتة حقيقية تخرجها من فقرها المدقع وحالتها المزرية، تحتاج إلى بنية تحتية كاملة وإلى مشاريع اقتصادية وسياحية عملاقة، وبمناسبة المشاريع يبدو أنه لا أثر لمشروع الجسر البحري المعلق الذي كان يفترض أن يربط بين اليمن وجيبوتي والذي كان في حال وجوده سيمثل أطول جسر معلق في العالم بجانب ما أشيع عن إمكانية بناء مدينة مشتركة بين البلدين تسمى “مدينة النور” هذا إلى جانب ما تناقلته بعض الأوساط في الآونة الأخيرة من احتمال قيام بعض المستثمرين من دول مجاورة بإنشاء مشاريع كبيرة تهدف إلى تطوير منطقة باب المندب وجزيرة ميون على وجه التحديد.