إنَّنا نعني بفقه «الأولويّات» أن يكون لدى كلٍّ منّا فهم دقيق لما ينبغي أن يكون أولاً أو ثانياً أو ثالثاً من أمورنا وشؤوننا، هذا الفقه هُوَ فقه حضاريّ يستمد عناصره ومسائله من وعيٍ ذي مستوى عالٍ، وقد بلغ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في جيل التلقي هذا المستوى من الوعي؛ ولذلك فإنّهم كانوا يهرعون إليه - صلى الله عليه وآله وسلم - لا ليسألوه سؤالاً ساذجاً معتاداً: ماذا أفعل يا رسول الله؟ بل يذهبون إليه ليسألوه: «أي الأعمال أفضل»؟ فيتخولهم رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم - لِيزن طاقاتهم وقدراتهم، وماقصَّروا فيه، وما فعلوه على وجهه وما لم يفعلوه على وجهه؛ ليقول لبعض السائلين -الذين علم منهم رسول الله قلَّة عنايتهم في أوقات الصلاة وأدائها في وقتها- يقول لهؤلاء: «الصلاة لوقتها»، ويقول لآخرين سألوا السؤال نفسه: «برّ الوالدين»، ويقول لفريق ثالث: «الصدقة»، ويقول لفريق رابع: «الجهاد في سبيل الله»، ويقول لآخرين: «الكلمة الطيبة صدقة»، فكان صلوات الله وسلامه عليه، وهو مَنْ علَّمنا الكتاب والحكمة، ينظر في احتياجات السائلين وطبائعهم ومكونات شخصيّاتهم واحتياجات الأمّة في الوقت نفسه؛ ليأتي الجواب دقيقاً حكيماً يُلبّي احتياجات أولئك السائلين، ويجعلها وسيلة لتلبية احتياجات الأمّة في المرحلة التي وقع السؤال فيها. واليوم، تتعدد حاجات الأمّة - أو بقاياها - وتتنوّع، فأمّتنا المسلمة قد تكون الأمّة الأولى في العالم التي يموت أناس فيها من التخمة وأمراضها، ويموت آخرون من الجوع والأمراض المتولدة عنه في أماكن كثيرة، كما أنَّ البعض الآخر يموت من عدم القدرة على التداوي ودفع ثمن الدواء. أولويّات غائبة: · يغصّ الحرم المكيّ الآن - ومثله مسجد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في مدينته - ويمتلئ بفضل الله بالطائفيّن والعاكفين والركّع السجود، والقادمين لأداء العمرة من أغنياء المسلمين والمقتدرين من جميع أنحاء العالم، وقد يصل عدد المعتمرين في العشر الأواخر وفي الليلة السابعة والعشرين بالذات إلى ثلاثة ملايين أوأكثر، ومع تقديرنا للدوافع الخيّرة وراء إقدام هؤلاء الملايين على تجشّم الصعاب للحصول على ثواب العمرة، لكنّنا نودّ أن نقول لهؤلاء: «هل نظرتم في احتياجات شعوبكم وأمتكم في بلدانكم أولاً، وفيما يجاورها من بلاد المسلمين؟ هل نظرتم إلى أمّتكم المسلمة و احتياجاتها من الطعام والشراب والدواء والتعليم والكساء والمأوى، وغيرها من ضرورات الحياة؟ هل تساءلتم عمَّا إذا كان الأولى والأهم فيما تقومون به هذه الأيام هو عمرة في رمضان أو إطعام مساكين أو كسوتهم، أو معالجة مرضى أو إغاثة منكوبين في مختلف أنحاء الأرض، أو تعليم جاهلين وأميين وإخراجهم من ظلمات الجهل والأميّة إلى نور العلم، أو كفالة أيتام وإنقاذهم من التشّرد، هل اطلعتم على أحوال هؤلاء المسلمين الذين يضطرون إلى بيع أبنائهم وفلذات أكبادهم إلى الجمعيّات التنصيريّة والجمعيّات التي تبيع البشر كما تُباع القطط والكلاب إلى المترفين في بعض البلدان الغربيَّة ونحوها؟ وهل اطلعتم على أحوال أولئك الفقراء من المسلمين في بلدان مختلفة - لا نجد داعيًا لتسميتها - يقصد الحرم منها آلاف مؤلفة لأداء العمرة، هل عرفتم أحداً من هؤلاء الذين يبيعون أعضاءهم للحصول على أثمان ضئيلة لقاءها يسدّون بها بعض ضروريّاتهم أوضروريّات أسرهم؟ هل اطلعتم على أحوال أولئك الشباب والشابات الذين يأكل الانتظار شبابهم وقد يدمر علاقاتهم لكي يستكملوا مَا يحتاجه الزواج من تكاليف؟! هذه الأمور التي ذكرناها كثير منها ضروريّ لو أنَّ معتمراً من هؤلاء - الَّذِي يعتمر أحدهم عدة مرات في حياته، وقد يفاخر بعضهم بعضاً بعدد العمرات التي قام بها في حياته - لو أن هؤلاء أنفقوا تكاليف عمرة في أيّ وجه من الوجوه التي ذكرنا لكان خيراً لهم عند الله وأشد تثبيتاً، ولأتاهم الله من لدنه أجراً عظيماً يفوق أجر العمرة مرات ومرات، ولردوا لهؤلاء الفقراء والأرامل والمعوزين وأبناء الشوارع ثقتهم بالله، وثقتهم بأمتهم، وثقتهم بالناس، وأعطوهم شيئاً من الأمل يُثير فيهم نزعة الإقبال على الحياة والرغبة في الاستمرار في ممارستها بشكل كريم، ولحافظوا عل أعراضٍ عزيزة، ونفوس ٍكريمة هِيَ منهم وإليهم، ولكان ثوابهم عند الله أجلّ وأعظم. إنّ من نعم الله على هذه الأمّة أن فَرَضَ الحجّ والعمرة مرة واحدة في العمر كله، لأنَّ هناك مصارف للخير غير الحجّ والعمرة جديرة بالاهتمام والتوجّه الأعظم، وثوابها عند الله أكبر ولاشك. هل يعلم المعتمرون - وهم يتكدسون اليوم في جوانب الحرم - أنّ آفة الفقر قد أثقلت كاهل الفقراء في البلدان العربيّة خاصّة، والذين يلامس عددهم ثلاثمائة مليون نسمة. إنّ أحوال فقرائنا - الذين لا يجدون قوتاً ولا دواءً ولالباساً يستر العورات، وصاروا ينظرون إلى التعليم على أنّه رفاهية وترف لا ينبغي أن يتطلعوا إليه - هؤلاء أولى بأموال المعتمرين وأصواتهم التي ينبغي أن تلبّي الله تائبة مستغفرة عن الرضا أوالسكوت عن جوع الجوعى، ومرض المرضى، وصرخات المستغيثين، فتلك تلبية لعلّ الله يسمعها ويستجيب لأصحابها.. فإنّنا لم يعد يرفع فينا الدعاء لكثرة ما فرّطنا في جنب الله! قد يقول بعض هؤلاء المعتمرين والحجاج المكررين: وماذا عن الآخرين، وماذا عن المسؤولين؟ ولِمَ نطالَب نحن بالتخلّي عن متعتنا الروحيّة ولايطالب أولئك بالتخلي عن الإسراف والتبذير والإهمال والفساد وسوء الإدارة؟ ولو فعلوا لما ظهرت هذه الظواهر التي تشكو منها، وأقول: هذا صحيح، ونتفق معكم فيه، ولكن إذا ما وجهنا إليكم النداء أولاً فإنّنا نفعل ذلك لإيماننا بأنّكم ذوو قلوب رحيمة خاشعة، تؤهلكم لأنّ تستجيبوا وترفعوا أصواتكم معنا بتلبية من نوع آخر، لعلّ الله يستجيب للتلبية والدعاء الَّذِي لم يُرفع منذ زمن بعيد، فإنّ دعاء أمّة تنقسم إلى ضحيّة وسفاك ومقصّر وساكت عن الحق ومشغول بنفسه لا يمكن أن تواجه هذه الآفات، أو تقاوم هذه الأمراض والعِلات. إنّنا نناشد المخلصين من رجال الفكر والعلم والرأي والإدرارة والقيادة والإعلام والثقافة، وخطباء المساجد ومؤسّسات المجتمع المدنيّ، نناشد هؤلاء كافّة بأن يعوا الحالة المتردّية التي بلغتها الأمّة اليوم، وأن يتمتعوا بالشحاعة الكافية لمصارحة النفس بهذا الواقع المرير، ثم لنضع أيدينا بأيدي بعض، ونتعاون جميعاً على إيجاد حلول عاجلة وسريعة، قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه الندم، ولا يُجدي فيه التلاوم.