الحديث عن شهر رمضان المبارك حديث ذو شجون، ذلك أن شهر رمضان قد تميّز بعدد من الخصال والصفات والخصوصيات، منها ما ميّزه الله تعالى به فجعله سيّد الشهور, تُفتح فيه أبواب الجنان وتُغلق فيه أبواب النيران وتصفّد فيه الشياطين وفيه تضاعف الحسنات وغير ذلك كثير , فهو موسم للطاعة والعبادة والتجارة مع الحق تبارك وتعالى, لذلك يحرص المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها على استغلال هذا الشهر استغلالاً أمثل بالتفرّغ للعبادة والاستزادة من فعل الخير وصلة الأرحام والصدقة.. وفي حضرموت باليمن لايزال الأهالي يعتبرون شهر رمضان محطة وقوف لمحاسبة النفس وتزويدها ببعض الجرعات الإيمانية حتى تصفو وتسمو..خصوصية أول ليلة تعد الليلة الأولى من شهر رمضان ليلة متميزة ولها خصوصيتها يستشعرها الجميع, فبعد صلاة المغرب يخرج المصلّون متوجهين بإبصارهم جهة الغرب يدعكون أعينهم علّهم يرون هلال شهر رمضان, فاليوم هو التاسع والعشرون من شهر شعبان ويبقون في شوق لمعرفة اليوم التالي هل هو الفاتح من رمضان أو المكمل لشعبان, وفي غمرة هذا التلهف والتحسّس يأتي الخبر عبر وسائل الإعلام بأن يوم الغد هو أول أيام الشهر الكريم فتنطلق الأعيرة النارية ابتهاجاً بهذه المناسبة في بعض قرى الوادي، ويمارس الأولاد بعض الألعاب النارية فرحاً بقدوم رمضان. وفي السابق كان الحاكم يخرج في حاشيته وجماعة من أهل الحل والعقد ورجل حاذق لديه الخبرة بمنازل الهلال للتمكن من رؤية هلال رمضان في موعده, فإذا تمكن من رؤيته أو أحد آخر تصرف الأنظار جهة أخرى ثم تعاد الكرّة فإذا تمت الرؤية مرة ثانية بشكل صحيح أثبت الهلال، حينئذٍ يشرع الأطفال الصغار الحاضرون بالتكبير والصخب الشديد الذي يعبّرون به عن فرحتهم بدخول الشهر ويتسابقون في إيصال الخبر إلى الأهالي وهم يردّدون: (رمضان جاء يا حيّا به جاب العشاء في جرابه). لحظات ربانية طوال أيام شهر رمضان وبعد أن يحضر غالبية المسلمين الدروس في المساجد بعد صلاة العصر يتجهون نحو السوق العام لشراء ما ترغب فيه أنفسهم مما لذ وطاب من الحلويات والفواكه والخضار وغير ذلك ثم يعودون إلى منازلهم في انتظار أذان المغرب الذي يسبقه صوت المدفع. إنها لحظات ربانية تلفها روحانية الشهر المبارك مصحوبة بدعاء المسلمين قبيل الأذان, صفاء القلوب ونقاء النفوس حينما تجتمع الأسرة كباراً وصغاراً حول مائدة الإفطار الكل مطرق برأسه تتحرك شفتاه مناجية الحق سبحانه بأن يتقبّل الصيام والصلاة والقيام في انتظار أن يصدح المؤذن بصوت الحق: الله أكبر, الله أكبر.. مائدة الإفطار في بيوت حضرموت عادة ما تتزيّن مائدة الإفطار بأشياء ضرورية لابد من وجودها : «التمر , القهوة , البقل (الفجل)، الشربة , السمبوسة, الباجيا , المطبق , وربما حضر الشراب (العصير) والماء البارد» الذي يطفئ حرارة العطش في الجو الحار الجاف الذي يميز وادي حضرموت خصوصاً عن بقية مناطق حضرموت واليمن عموماً , وما أن يصدح صوت الحق مجلجلاً في سماء الدنيا, تمتد الأنامل لتأخذ حبة التمر الأولى وتسمي الله معلنة اجتياز اليوم الأول بقبول وعفو ورحمة من المولى عزّ وجل (اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله) وتبدأ الجلسة العائلية بعد أن يؤدي الذكور صلاة المغرب في المساجد وتجتمع النسوة في البيت لتصلي المغرب في جماعة. جلسة عائلية في كل ليلة من ليالي شهر رمضان تجتمع الأسرة في كل بيت من بيوت حضرموت بعد الإفطار في جلسة عائلية يتجاذب فيها الجميع أطراف الحديث وبينهم حبات اللب (الحنظل الحضرمي) وبعض المكسرات والحلويات وفناجين الشاي الصغيرة اللطيفة وصوت الملاعق وهي تحرّك السكر في فناجين الشاي الأنيقة الذي يضفي جواً بديعاً على هذه الجلسة فتعلو الضحكات البريئة وتنبعث الابتسامة الهادئة وتنسى كل الخلافات والمشاحنات ويفتح الكل صفحة جديدة, وتستمر الجلسة حتى يحين موعد صلاة العشاء، فتفترق الأبدان وتبقى القلوب مجتمعة على المحبة والخير والصفاء, وبعد انقضاء الصلاة يعود الجميع لتناول وجبة العشاء والتي عادة تكون من المكرونة أو الأرز أو الخبز بالإضافة إلى بعض الحلويات مثل الكرامل والجلي والكاسترد (التطلي). التزاور والمشاهرة في الليالي الأولى من شهر رمضان يبدأ الأرحام بزيارات بعضهم البعض فيزور الأخ أخاه والجار جاره والبنت وزوجها تذهب بعد الإفطار أو ربما بعد العشاء إلى بيت أهلها, وهكذا تعج شوارع البلدة بالحركة بين ذاهب وآيب.. ويتم تحديد المواعيد مسبقاً حتى لا تختلف الزيارات فالكل مهيأ لان يزور وإيزار. صلة الأرحام تتجسد جلياً في هذا الشهر, يأتي الأباعد ليزوروا الأقارب ويذهب هؤلاء ليزوروا أولئك وتترك الزيارة أثراً في النفس لا يُمحى, بل يترقب الجميع حضور من يتعودون حضورهم في الليلة المحددة في الوقت المعروف، وربما سبب غيابهم إشكالاً عند بعض الأسر , فهذه من الأمور التي يحسب لها ألف حساب والمعروفة عند أهل حضرموت ب (التشهير أو المشاهرة) من الشهر والمباركة به, ويقال (بانشاهر أو بانشهر لآل فلآن) أي سنبارك لهم بحلول الشهر في بيتهم. إفطار الصائم ومن العادات الجميلة في رمضان (التفاطير ومفردها تفطير) والمقصود به إفطار صائم، فمنذ الليلة الثالثة وربما الثانية يبدأ الأهالي بدعوة أقاربهم وأرحامهم وجيرانهم للإفطار لديهم الليلة الفلانية, وربما أصبح من المعروف في معظم مناطق الوادي أن الليلة الفلانية هي ليلة الإفطار عند آل فلان سنوياً كليلة الحادي عشر من رمضان مثلاً فهي ليلة من الليالي الوتر التي يتم فيها ختم القرآن في مسجد عيديد بمنطقة مدوده من ضواحي سيئون ففيها يحتفل كل جيران المسجد في ساحتهم وفي حارتهم بهذه الليلة فيدعون ذويهم للإفطار وهكذا تبدأ هذه التفاطير. الليالي عامرة والمقاهي حاضرة طيلة ليالي الشهر الفضيل تكون تلك الليالي عامرة بالسمار والناس في حركة دائمة والمقاهي تعج بمرتاديها لتناول الشاي وغيرها وكذلك اللعب “بالورقة والضمنة”, وعلى الطرف الآخر تزدحم النوادي بالشباب الذين يمارسون هواياتهم الرياضية في مختلف الألعاب. ختم القرآن والختومات جمع ختم والمراد به ختم المصحف خلال ليالي شهر القرآن في المسجد المعين, إذ أن على إمام المسجد قراءة القرآن ابتداء من الليلة الأولى من رمضان ويقسم أجزاؤه بعدد الأيام التي تفصله عن اليوم المحدد لختام مسجده، ويترك جزءاً من القرآن (من سورة الضحى إلى الناس) ليقرأها ليلة الختم بمشاركة الحاضرين, حيث يجتمع المصلون في هذا المسجد بعد صلاة العشاء من ليلة الختم ويقرأون ما تيسر من القرآن، وغالباً ما تكون ليالي الختم من الأوتار لعلها تصادف ليلة القدر , وتكون ليلة السابع والعشرين ختم الجوامع (أي المساجد الكبيرة التي تقام فيها الجمع والأعياد), بعد دعاء الختم والتأمين من قبل الحاضرين تتم تلاوة بعض القصائد والأناشيد الدينية في مدح النبي الكريم بأصوات المنشدين المطربة الشجية التي تذهب بك بعيداً فتثير لديك مشاعر الحب والقرب من الله سبحانه ورسوله الكريم، في هذه الليالي المشرقة والمنيرة من هذا الشهر الكريم , وربما تليت بعض القصائد في الزهد والوعظ وخطبه للتذكير والتحذير ينفض المجلس بعدها وقد حصل كل حاضر على شحنة إيمانية تعينه على بذل المزيد من الخير له ولإخوانه. ابتهاج الأطفال في عصر رمضان يجتمع الأطفال بنين وبنات مع أولياء أمورهم أو إخوانهم الكبار حول المسجد الذي ختمه الليلة فتجد الباعة مفترشين الباحة أمام المسجد وقد ارتدى الصغار الحُلل الجميلة والبدلات الجذابة ومع كل واحد منهم سلة يضع فيها ما يشتريه من البسكويت والكاكاو والنعنع وغير ذلك مما يعجب الصغار وترى المكان كله منتعشاً بالحركة والفرحة تطغى على المكان, وهناك البنات الصغيرات يلعبن في براءة ويرددن بعض الأهازيج الرمضانية الأثيرة التي لا تسمعها على الإطلاق إلا في رمضان : (ليت رمضان يقعد عندنا سبعة أشهر).. ثم ينصرف الجميع نحو بيوتهم ليجتمعوا يوماً آخر عند مسجد آخر طيلة أيام الشهر الكريم، وفي بعض المناطق يحتفل الأطفال بألعاب أخرى كما هو الحال في منطقة العنين من ضواحي مدينة القطن حيث يحتفلوا ليلة الحادي والعشرين من الشهر الكريم بما تسمى لعبة الكوبار حيث يلبس الأطفال البنين والبنات أجمل الثياب ومع كل واحد سلة بها حلويات ويجتمعون بجانب بيت أحد مؤسسي اللعبة ويتم الاحتفال حيث يردد الأطفال الأهازيج والأناشيد : (كوباري كوباري حقي وحق أختي) ويستمر على هذا الحال حيث يجتمع أهالي القرية للمشاركة ومشاهدة أطفالهم حتى يحين أذان المغرب . المسحراتي اعتاد الناس منذ القدم على عمل المسحراتي الليلي, الذي يمر بطبله ذي الدقات المميزة معلناً وقت إعداد السحور فتنتبه ربات البيوت على صوت المسحراتي لتنهض بهمة ونشاط لإعداد السحور أو (الفلاح) كما هو معروف بين الناس في حضرموت ولايزال المسحراتي يمارس عمله بحب ورغبة رغم وجود الفضائيات اليوم واعتياد الناس على السهر حتى أوقات متأخرة من الليل وربما إلى أذان الفجر, فتسمعه بعد منتصف الليل يسير مسرعاً وقد شمر عن ساعديه وساقيه بدقات متتالية قويه يوقظ النائم لا يلتفت خلفه فلديه عمل مهم وشاق ودقيق ربما أخذه بعض الناس على تركه, فينطلق مسرعاً حتى لا تفوته الفرصة وحيداً في ظلمة الليل الحالكة عند وجود السحب في السماء متحملاً كل المشاق والصعوبات وربما السخرية في وقتنا الحالي لمن لا يقدر مثل هذا العمل وانعكاساته وما يحمله من موروث إسلامي لا تراه إلا في هذا الشهر المبارك، وتأتي العشر الأواخر ليستلم المسحراتي أجرته من الأهالي الذين يدفعونها إليه بكل محبة ومودة , فهذا الرجل قد ضحى بنومه من أجلهم وسهر الليالي كي ينعمون بنوم هادئ مطمئنين بأن هناك من سيوقظهم للسحور في الوقت المناسب ولسان حالهم يردد: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ , فينهض المسحراتي نهاراً أو ربما بعد الإفطار ويدور على هذه البيوت بصحبته مجموعة من الأطفال تردد أناشيد خاصة بهذه العادة والمهمة اللذيذة والمتعارف عليها بمسمى (الوريقة) أو الشامية مرددين: (وريقه حيو وحيوتي وريقه والطعام في الضيقة) وغير ذلك، وعادة ما يحدد الأهالي أجرة المسحراتي وأطفاله المصاحبين له فقد تكون طعام ( بر , ذره ، رز ) أو نقوداً أو أي شيء آخر وليس للمسحراتي حق في الاعتراض بل يقبل ما تجود به نفوس الكرام من أهل الحي.