حين كانت سطور «القصة القصيرة جداً» قليلة جداً تولد فنية عناصر القصة: الحدث، الشخصية، الزمان، المكان على إمكانية اختزالها وتكثيف الدلالة. قصص ابتسام القاسمي أنموذجاً نستوحي منه ذلك. نستعرض منها: 1 «ضيعها ذات يوم وفي أثناء رحلة بحثه عنها وجدها شخص آخر»، ثلاثة أفعال تركب حدث القصة [ضيع, بحث, وجد].. أما الشخصية فالهاء في [ضيعها, عنها] على امتداد عموم الزمن [ذات يوم] وهو زمن طبيعي وفي استحضار الزمن استحضار الحدث. مع [ذات يوم] بدأ السرد قبل القصة القصيرة جداً وفي متن القصة التقاط لبؤرة حدث ( البحث) والخاتمة تنقل حدث عدم لقائهما بتغييرها إنساناً آخر لتكون عدد الشخصيات على متن القصة ثلاث شخصيات هي, وهي المولودة عن تلك, وهو الباحث عنها. 2 «كان يقتطف من كل نظرة من عينيها وردة حمراء لتحمر من دمائها» بنبرة حدة الألم على بساط الزمن النحوي زمن الماضي «كان, أخذ, غرس» وبين يقتطف وتحمر تحول الجمال مع الصورة البصرية إلى ألم وعداء وثنائي اللون الأحمر المختلف الدلالة يؤيد ذلك مساندة لفظة « شوكة» لأحد اتجاهي اللون الأحمر الذي كان خاتمة القصة. 3 «كلما رآني يحتضنني ظننته يحن إليّ فإذا به يخبئ عينيه كي لا أقبض عليهما متلبستان بباقة من النساء» (كلما) الدالة على التكرار وقرب فعلها (رآني) من جوابها (يحتضنني) دلالة سرعة الحدث المتحرك المختزل لفظاً المتسع معنىً وإحساساً باقياً لديها »ظننت, يحن, أقبض عليهما» يشير إلى ذلك الاتساع توضيحها لما حدث من قبل «كلما رآني يحتضنني» ولعل في تكرار الحدث مع «كلما» تكرار لزمن غير محدد يتجه بالحدث إلى المستقبل وبالمعاناة إلى الاستمرار. 4 «في الذكرى الأولى للقائنا أهديته خنجراً كي يقتلني به أزاحه بتعجب ثم اغتالني بامرأة أخرى» استرجاع خارجي حيث الذكرى حدثت خارج السرد، ورغم تحديد الزمن في البداية «الذكرى الأولى» إلا أن سمة العموم تتلبس به وقد ساهم تحديد فاعل الحدث، «نا المتكلمين, والمفعول به الهاء في أهديته» من حد الشمول وإطلاق الزمن, خاصة أن بعد الزمن العام الماضي «الذكرى الأولى» المبتدأ به قد تبعه أزمنة مضارعة تجعل المتلقي مزامناً للحدث الذي تتشظى منه نار الغيرة وألم الترك حين تماهي الموت بالخنجر والخروج من الحياة بمشاركة امرأة أخرى لها. 5 «في كل يوم أجمع الشعرات المتساقطة منه, أقدسها بقدر احتقاري له وأسأل نفسي متى أمتلك الجرأة للاقتداء بها وأسقط عنه». استمرار الحدث إلى الآن بزمن طبيعي «في كل يوم» تلته أزمنة المضارع مناسبة للاستمرار ومتجهة بالزمن من الحاضر للمستقبل «أجمع, أقدس، أسأل، أمتلك» ومع تكرار الأنا الفاعل الشخصية الرئيس تجمع عدم الاستطاعة على متن القصة، لذا تختتم القصة بالتمني المتجه إلى تحقيق الحدث, كما تجمع وجهة نظر القاصة السارد من تكرار الألفاظ «متساقطة, أسقط» بدء القصة وختامها, وتظل محصورة بوجهة النظر بين هاء الغائب المخاطب بداية وختاماً «منه, عنه» لتكون الشخصية الثانية «هاء الغائب» وهي رئيسة أيضاً بؤرة القصة الجهة التي تلقى إليها انفعالات الشخصية الأولى. 6 «حاول أن يعرف المدينة أكثر تجول في شوارعها فوجد فردة حذاء قديم تعلو منصة بينما وجد الورود ميتة في نواح من حواف الشارع» بين فعلين وزمن واحد هو الماضي «حاول, وجد» تؤطر القصة ويلتقي المتلقي مع الشخصية وفعلها الآني المزامنة «يعرف, تعلو, تجول» وهي أفعال تجتمع فيها دلالة السعة مع اختيار الفضاء المفتوح الواسع «المدينة, الشارع, المنصة» به تتوسع وجهة نظر الكاتب مع اختزال في كيفية المعرفة ومدى التجول بسبب ضيق مساحة القصة القصيرة جداً, وتتصور اتساع وجهة النظر التي لا يحدها حدود السطور مع التقابل الذي قامت عليه القصة من اجتماع الورد, العلو, المعرفة أمام حذاء, قديم, ميتة. مما يوحي بانقلاب الموازين واختلاط الأمور موضوعياً وانتظامها فنياً على متن القصة حدثاً متصاعد وإيقاعاً متناسقاً. القصة القصيرة جداً حضور فني وتصاعد في المضمون ورسم دراية لأفعال الشخصية بإتقان حتى تبدو القصة مكتملة الانفعال حاضرة الحدث حية الزمن ومؤطرة المكان, مع الاختزال الذي هو موهبة الفنان فيها واضعاً المقام للمتلقي في مد مساحة القصة مكاناً وزمناً ووجهة نظر. وفي متن القصيرة جداً يشغل المكان المتخيل مع تشغيل القاص لتكثيف الحدث, ومد المتلقي المساحة بخياله منطلقاً من أول خيوط كاتب القصة ملتقطاً رسم المكان من أجواء الشخصيتين المنفعلتين سواء كان الموضوع عاطفياً أو عاماً يمس جوانب الحياة سياسياً أو اجتماعياً وكرؤية فنية أليس في جعل المكان خيالياً مد لإمكانية وجود الحدث في أزمنة مختلفة وظروف مختلفة, أليس ذلك حياة للقصة وكاتب القصة؟ أليس هو التنبؤ الذي تفاجأ به أجيال قادمة ولا تتعجب منه لأنه صادر من فنان يسبق إحساسه حدث قادم ومكان مرسوم وزمان مولود وشخصيات تتكون؟ ربما هذا التميز في السمات الفنية للقصص القصيرة جداً موجود بنسبة أقل في القصص المتوسطة والرواية بسبب السعة التي تمكن من عرض الموضوع والمزامنة لما يعايشه الكاتب والمتلقي وقت كتابتها مع إمكانية الحبكة ومساحة ترتيب الأحداث ورسم شخصيات. عموماً كل أشكال القصة فن يخدم الحياة وما نلقي عليه الضوء القصة القصيرة جداً هو كاميرا تتقصى شغلاً فنياً مركباً دقيقاً غير متصف بالتخبط والعشوائية. أخيراً تجرأت, القاصة ابتسام القاسمي, مركز عبادي للدراسات والنشر صنعاء , ط1 , 1432ه 2011م