1 في الحلقة السابقة : تحدثنا عما قال فقهاء المقاصد حول أهمية المقاصد ومكانتها وقوتها الاستدلالية – مرونة، ومتانة، ومواكبة لأوضاع المجتمع – فهي الكفيلة توجيه العقل نحو الأولويات ( فقه الاستطاعة ). 2 كما أننا في الحلقة الماضية : تعمدنا الحديث حول موضوع الخطاب المقاصدي والذي استعرضناه كإجابة على سؤال تم طرحه على هيئة اعتراض، والذي جاء متشائما ً من أي حديث بعيد عن الهم المعيش مطالبا ً بخطاب إنساني حقوقي عادل ...الخ ما ذكرناه من إجابة في الحلقة السابقة وفي هذه الحلقة سنتحدث عن العنوان. فإلى المحور الأول: أسباب غياب فقه المقاصد. لا نريد التعميق الفلسفي في هذا الباب، ولكن سأحاول تقريب الفكرة من خلال مقارنة بين فقه الصحابة فترة الخلافة الراشدة ، وما بعدها – نعم مقارنة سريعة ( إجمالية ) ومن خلالها يمكن للقارئ أن يجعلها خطاً واضح المعالم، ثم ينطلق مع هذا الخط لاستنتاج الأسباب التي أدت إلى غياب فقه المقاصد فنقول : أولاً : من الأمور البديهية أن الصحابة كان لديهم فقه فطري سهل لا تعقيد فيه لأنهم عايشوا تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم فوجدوها تهدف إلى جلب مصلحة أو دفع مفسدة ومن هنا استطاعوا أن يتعاملوا مع كافة المجتمعات التي فتحوها بمختلف ثقافاتها فاستوعبوها استيعاباً تاماً وكانت قاعدة التيسير هي البديل الحاضر عند الصحابة لأن قاعدة التيسير تقوم على ثمانية عشرة دليل من القرآن والسنة، وخلاصة ما سبق: أن فقه الصحابة هو عين فقه المقاصد. ثانياً : كان فقه التابعين هو فقه الصحابة في جوانب الحياة كلها عدا الجانب السياسي ( توريث الحكم ) واحتكاره سياسياً في قريش عموماً أو في سلالة العباسيين، أو في العلويين. بدأت الرؤى الفقهية هنا ترتكز على ( الأدلة الجزئية ) الرواية، وكانت هذه الروايات إذا لاقت اعتراضاً من هنا أوهناك يتم تدعيمها بقاعدة دفع المفاسد، لأن الأمير سيقتل المخالف باسم الدين – فالروايات جاءت خادمة للمستبد ويصعب رفضها، فيضطر الفقيه لإقناع المخالف سياسياً خشية على دمه أولاً ، ثم أن الدين يأمرنا بالطاعة والصبر و...و ..و الخ المبررات الدينية والعقلية والدنيوية. ثالثا ً : لم يمر سوى فترة قصيرة حتى انسحبت فكرة المبررات السياسية على الجانب الفقهي عموما ً تضييقاً وتشدداً مدعومة بالروايات الجزئية والتي قد تصح وقد لا تصح، نعم لقد أنسحب التشدد الفقهي على جوانب الحياة شيئا ً فشيئاً لأسباب عدة أهمها وأبرزها الاضطرابات السياسية والتي دفعت الكثير إلى الخلاص الفردي والتزام الإتباع بل التعلق بمثالية جيل الصحابة في التعبد والزهد ...الخ . السبب الثاني ظهور فكرة الشيعة وتبلورها ذهنياً – لها قوة حضور – في الأسس والمنطلقات الفكرية، فمثلاً كان جيل الصحابة كما قلنا ينطلقون بفقه عقلي قائم على السير وفق قواعد مقاصدية واضحة ( جلب مصالح ودفع مفاسد) حيث أنطلق الشيعة باتجاه عكسي تماما ً...إلغاء العقل، ورفض المصحلة، ورفض المقاصد، وجعلوا كل مسألة جزئية نصاً جزئياً إلى حد قضايا مضحكة، وينسبون هذه الأقوال إلى علي بن أبي طالب، أو جعفر الصادق أو أي واحد من آل البيت العلوي ؟ هذا الموقف الشيعي كان يصاحبه انتهاكات وظلم من الحكام للمعارضين من البيت العلوي وغيرهم وصل حد القتل والمطاردة والنفي والسجن، الأمر الذي أنعكس تعاطفاً وحباً دينياً تجاه العلويين وأشياعهم، وكانت الروايات تتكاثر بقوة هائلة داعية إلى نبذ الظلمة والعيش مع أهل الصلاح، كما أن الروايات في جانب التشيع على كثرتها، بعضها وهذا البعض كثير جداً – يحمل ذماً للعقل، وأن الدين وحي قرآن أو سنة من معصوم من آل البيت وهنا تحول الأمر إلى شعار يحمله أهل السنة خلاصته الرأي ليل والحديث نهار، والعلم هو حدثنا وغيره هو وسواس الشياطين ؟ - ثم أن تيار السنة لم يقف مكتوف اليدين فلا بد من البحث عن إجابات جزئية حول كل شيء، وسواء هذه الإجابات صحت إلى النبي أو إلى الصحابة أو لم تصح وقد تضافرت روايات الفريقين على رفض العقل واختلفت في أشياء والنتيجة هي تدمير العقل برفض مباشر أو تكبيله وإرباكه بالإجابات الجزئية ؟ وسبب الإرباك كثرة الرواية التي ذهل العقل أمامها لتناقضاتها حول أية قضية لدى الفريق الواحد أولاً ثم لدى خصمه وكل ٌ يدعي صدق روايته فأصبح العقل عاجزاً تماماً عن فهم الغاية من التشريع، كيف لا، وهو محرم عليه النظر دينياً بنصوص نبوية، أو علوية أو آياتية، وسيزداد الإرباك إذا قيل كل الروايات المتناقضة صادرة عن عصمة، إذن فالتشريع له أسرار خاصة ( إكليروس ) واللازم هو الصمت والتسليم عند فريقي السنة والشيعة الأمر الذي تبلور عند قضية أخطر هي إضفاء طابع القدسية على الرواية مع وجود اعتراض على القدسية هنا وهناك ؟؟...ولنا مع الحديث بقية إنشاء الله في الحلقة القادمة.