تثير كلمة «الخلافة» كثيراً من الشجون والتساؤلات حول حقيقة وجودها من عدمه، وهل يحق لنا نحن مسلمو القرن الحادي والعشرين في ظل دول ما بعد الاستعمار التقليدي، وفي ظل الموجة الأولى للانتفاضات العربية، وما رافقها من سياق دولي انتقالي أن نتحدّث عن الخلافة الإسلامية؛ ما هي عناصر هذه الخلافة، باعتبارها نظاماً للحكم، وما هي المتغيّرات التي يلزم توافرها في نظام سياسي ليطلق عليه مسمّى الخلافة..؟!.. نطرح هنا تساؤلات عديدة بقصد إثارة انتباه الباحثين لأهمية الموضوع، أكثر ممّا نهدف إلى الإجابة عن تلك التساؤلات؛ فالموضوع في ظلّ التحوّلات الجارية عربياً أخذ أبعاداً سياسية حزبية، بينما نحن نحاول هنا مناقشة ذلك التصوّر المثالي القائل بالخلافة، مع تقديم تفسير مركّز لدواعي تقديس مثال مصنوع ومكرّس فقهياً، ومن أجل ذلك سنقتصر على التنبيه للحقائق العلمية التالية: أولاً: إنّ المسألة السياسية في الإسلام لم تعد مسألة فقهية، فمن الناحية المجتمعية، ورغم أنّ الخلافة كمفهوم تقليدي مرتبط بالذاكرة والذهنية الجماعية للأمّة الإسلامية، فإنّ للخلافة عنصرين؛ الأول معنوي، والثاني مادي؛ العنصر المعنوي هو حديثي، وهما حديثان لا يرقيان إلى درجة الأحاديث الصحيحة؛ الأول رواه الإمام أحمد عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: كنّا جلوساً في المسجد فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال: يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمراء..؟! فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته، فجلس أبوثعلبة، فقال حذيفة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوّة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوّة، ثم سكت، قال حبيب: فلما قام عمر بن عبدالعزيز، وكان يزيد بن النعمان بن بشير في صحابته، فكتبت إليه بهذا الحديث أذكّره إياه، فقلت له: إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين - يعني عمر - بعد الملك العاض والجبرية، فأدخل كتابي على عمر بن عبدالعزيز فَسُرَّ به وأعجبه. وروى الحديث أحمد والطيالسي والبيهقي في منهاج النبوة، والطبري، والحديث صحّحه الألباني في السلسلة الصحيحة، وحسنّه الأرناؤوط، أمّا الحديث الثاني فهو ما ورد عن سَفِينَةُ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الْخِلاَفَةُ فِي أُمّتِي ثَلاَثُونَ سَنَةً، ثُمّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمّ قَالَ سَفِينَةُ: امْسِكْ عَلَيْكَ خِلاَفَةَ أَبي بَكْرٍ، ثُمّ قَالَ: وَخِلاَفةَ عُمَرَ وَخِلاَفَةَ عُثْمانَ، ثُمّ قَالَ لي: امسِكْ خِلاَفَةَ عَلِيّ قال: فَوَجَدْنَاهَا ثَلاَثِينَ سَنَةً، رواه أحمد وحسّنه الأرناؤوط. أمّا الجانب المادي الذي تحدّثنا عنه أعلاه، فقد ارتبط بثلاثين سنة من التجربة لا غير، هذا هو مخزون الذاكرة الجماعية للأمّة وخبرتها حول الخلافة «وكانت الدولة جديدة على العرب، الذين كانوا قبل الإسلام قبائل شتّى، لا خبرة لهم بأمور الدولة ومتطلباتها». ثانياً: إنّ العودة إلى التراث السياسي أو استدعاءه لمخاطبة العقل الإسلامي المعاصر، لابدّ أن يستحضر أنّ الواقع المجتمعي أنهى بحكم تعقيداته ذلك الزمان الذي كان يعتبر فيه الفقيه نفسه قادراً على بناء نظام معرفي لأمّة معيّنة؛ ذلك أنّ النظام المعرفي الإسلامي عبر التاريخ توسّع وبقيت مركزية القرآن والسنّة الصحيحة هي الثابت، في الوقت الذي توسّعت فيه العلوم المتعدّدة والمرتبطة بالتمدن، وحيث إنّ المجتمع تطوّر وتطوّرت معه تقاليد الحضارة الإسلامية وكرّست سلوكاً وأعرافاً وتقاليد مجتمعية وسياسية عبر زمن ممتد؛ عُرف بزمن التمدُّن وتداخل الجماعات في جماعات مجتمعية متعدّدة، فإنّ الخبرة التاريخية انتظمت في دول إسلامية مختلفة، وهكذا تطوّر الاجتماع السياسي، فظهرت نظم سياسية غير معروفة عند الفقيه، وغير منصوص عليها قرآناً وسُنّة صحيحة. صحيح أنّ المعرفة الإسلامية التي نمت منذ القرن الأول للهجرة لم تأخذ صيغة المثالية السياسية، بل هدفت إلى بناء سلوك نظامي جماعي يكون فيه الفرد مندرجاً ضمن دائرة القيم الجماعية بصفتها القيم الأسمى مقارنة بالقيم الفردية والقبلية؛ إلا أنّ قضايا المعرفة الإسلامية أكثر تعقيداً، والمسألة السياسية واحدة من المسائل التي عجز الفقه عن تنظيمها تنظيماً نسقياً يتسق وخبرة المجتمع الإسلامي؛ لذلك احتفى الفقه بالخلافة ووجوبها، دون أن يؤسّس لنظام فقهي معرفي يجعل من الخلافة نظاماً للأمر السياسي - أي للسلطة السياسية - يعرف التداول داخل دائرة الإرادة الطوعية للأمّة. ولعل هذا العجز الفقهي الإسلامي البيّن حدا بالمنظومة الفقهية التقليدية لتكريس نظرية التغلب والخروج المسلّح «رغم أننا نجد اختلافات داخل مدرسة التغلب، والشيء نفسه ينسحب على مدرسة الخروج» على الحاكم، لأنه المخرج المعرفي لوجوب الخلافة وديمومتها، وهكذا أصبح التغلب والخروج تبريراً أو مساوقة للنفوذ المجتمعي للقبيلة، ضمن هذا التطور أصبحت السنّة وخاصة الأحاديث النبوية في كثير من الأحيان أشبه بالنصوص الأديولوجية، ودخل المحدّثون والفقهاء في معارك مع منظومة أنتجوها، فيما تغلبت القبيلة ومنظومتها العنيفة على قيم الأمّة القرآنية والمبثوثة في السُنّة الصحيحة التي تستوجب وتفرض الشورى باعتبارها مركز ثقل القيم السياسية الإسلامية. ثالثاً: حاضر المسلمين اليوم لم يخرج بشكل كبير عن إنتاجات خبرة المجتمعات الإسلامية المتعددة والمتأثرة بالواقع الدولي وفعاليته، وهو كذلك سياق كانت فيه القبيلة والعشيرة قوة قاهرة تأثر بها الفقيه وطوقته في الغالب الأعم، من جهة نظره في النص الشرعي، ومن جهة واقعه وواقع السلطان والسلطة السياسية وعلاقة هذه الأخيرة بالفقه، ومعلوم أنّ هذا السياق لا يعتد كثيراً بالشورى المجتمعية والمشورة القرآنية، ولا يأخذ بعزيمة الأمّة وإرادتها الطوعية في الاختيار، ومادام هذا هو واقع الأمر- في عموم العموم حتى اليوم - فإنّ الحفاظ على وحدة الأمّة ليست واجباً دينياً فقط بالنسبة للفقيه، ولكنه كذلك ممارسة معرفية تستدعي جمع الأدلّة وإحاطتها بالقدسية اللازمة حتى يفهم عموم الناس في المجتمع الإسلامي أنّ الخلافة هي النظام الواجب والوحيد لدولة المسلمين والدولة الإسلامية. غير أنّ هذه الأديولوجية الفقهية، وهي تركز على مثالية الخلافة، أضعفت بشكل كبير العنصر المعنوي، أي الحديث النبوي بالتعامل معه وظيفياً، وحشره في منظومة أيديولوجية خلطت الشريعة باعتبارها نصوصاً صريحة من القرآن والسنّة الصحيحة، بالفقه الذي يعبّر عن اجتهادات بشرية في زمان ومكان معينين، كما أضعفت المنظومة الفقهية التقليدية الجانب المادي المتمثل في تجربة الخلفاء الراشدين الثلاثينية للحكم، حيث إنها همّشت بشكل فظيع منظومة القيم التي صهرت الأمّة الإسلامية وجعلتها تعيش في ظلّ وحدة مطلقة فيما يخصّ نظام القيم؛ فالفقه التقليدي وهو يتعامل أيديولوجياً مع موضوع الخلافة ووجوبها، لم يطرح قدرة الأمّة المنتظمة وفق القيم الروحية نفسها للصحابة رضوان الله عليهم على إنتاج صيغ جديدة من الخلافة الإسلامية، تتجاوز ما تمّ إبداعه في الثلاثين سنة من عمر الخلافة. وبهذا السلوك ضيّع الفقه السياسي الإسلامي التقليدي إمكانية الاجتهاد السياسي من داخل منظومته القيمية، حيث ضيّق الفقه السياسي التقليدي من أفق منظومة القيم السياسية الإسلامية التي أنتجت الخلفاء الصحابة، كما شوّش على مسار التأريخ للخبرة والتجربة السياسية الواقعة والمتخيلة، وها نحن اليوم نرى أنّ مشعل هذا التضييع الممارس فقهياً يجد له أنصاراً في القرن الحادي والعشرين، وهم يحملون ما يزعمون أنه استعادة وإعلان الخلافة، وهي في حقيقة الأمر حلم لا يقرّه القرآن نصّاً ولا سنّة صحيحة، ولا خبرة التجربة الإسلامية الممتدة في التاريخ أربعة عشر قرناً من الاجتماع السياسي، والأصح أربعة عشر قرناً من تعدّد الاجتماع السياسي الإسلامي نظماً حاكمة، والمتحد من حيث المرجعية العليا، والقيم المعرفية والسياسية. * مفكر مغربي