لم أكن أعرف أن لتراب الأرض أنفاسًا ونبضات.. وأشواقاً وهمسات وأشعاراً وأخباراً وخفايا وأسراراً حتى وطأت قدماي تراب مدينة الحوطة عاصمة محافظة لحج... الأرض هنا ولا شيء غير الأرض هي مستقر الأحياء ومستودع الأشياء.. هي كل الثروة وكل الخضرة.. هي الوجه الباسم والخير الدائم.. هي الوعد والوجد.. هي مبتدأ الحكاية وخاتمة الرواية..أجمل البقاع لا يوجد تاريخ دقيق لمنشأ هذه المدينة وبدايات تشكلها غير أن معظم الروايات تؤكد أن قصتها ابتدأت منذ القرن الثامن الهجري حين قدم إليها أحد الرجال الصالحين ويدعى الشيخ مزاحم بلجفار الذي تنسب إليه مدينة الحوطة وقيل إنه الشيخ سفيان بن عبدالله الذي تنسب الحوطة إلى “حوطة سفيان”... وعموماً فقد شكل مقدم هذا الشيخ الجليل إلى هذا المكان نقطة الانطلاق والبداية لهذه المدينة التي سميت فيما بعد باسمه. فهل كان يعرف هذا الشيخ الجليل أن الأرض التي خط رحاله فيها ستتحول ذات يوم إلى مدينة يتقاطر إليها الناس من كل مكان وتتعاقب عليها الأجيال والأزمان.. تعمر مساجدها بالعلم والإيمان وتزخر قصورها بالملك والسلطان.. يرفع فيها الأذان.. ويصدح فيها الدان وتعبق في أرجائها روائح البخور والطيوب والفل والريحان.. هل كان يعلم هذا الشيخ الجليل أنه حين قرر المقام والبقاء في هذه البقعة من الأرض إنما كان يسلم نفسه وروحه لأجمل البقاع.. لمساحة من الحب والدفء والحنان أحاطها بكل محبة وطيبة وأحاطت به إحاطة السوار بالمعصم حتى كان لها وكانت له. لم تسأله يوماً ما أصله وما فصله، ومن أين جاء وقدم إليها، وهل هو شرقي أم غربي، شمالي أم جنوبي، كانت الحوطة ولا تزال حوطة الشيخ الصالح المعروف لدى كثيرين ب “اليمني” وكان هذا الشيخ ولا يزال أبا المدينة وحارسها الأمين وأستاذها الواقف بشموخ أمام رياح الأيام والأحداث التي تحاول أن تقلع المدينة من جذورها وتسلبها أجمل ما فيها. مدينة التنوع أجمل ما في الحوطة أنها مدينة التنوع والتعايش حيث معظم أسرها وعائلاتها قدمت من مختلف مناطق اليمن فعاشت فيها ماضية على خطى مؤسسها الأول الذي لا ينسى الناس الاحتفاء به والتذكير بقدومه وفضائله ومناقبه في احتفائية سنوية يحضرها الكثيرون من أماكن شتى وتثرى بالعديد من الطقوس والعادات بعضها قد يكون مقبولاً وبعضها الآخر قد لا يكون مقبولاً لدى الكثير من الناس وربما لدى صاحب الاحتفائية نفسه الشيخ الولي العارف الذي لا يزال واقفاً بثقة وثبات ينثر على تلاميذه و مريديه درر المعارف والعلوم ويزيح عن قلوبهم وكواهلهم مثاقيل الأحزان والهموم.. يشير بإصبع نحو الأرض فيدركون جميعاً أنهم من آدم وآدم من تراب ويشير بأخرى نحو السماء فينكشف الحجاب وتفتح الأبواب ويلتقي الأحباب بالأحباب.. في كل زاوية حكاية كل زاوية في مدينة الحوطة لها قصة وحكاية.. فمن هنا مر الأتراك وإلى هنا وصل الإنجليز... اتخذها بعض الأئمة عاصمة لهم.. وفي قصورها وبين ظهرانيها عاش ومات الأمراء والسلاطين... تعرف الحوطة جيداً ماذا يعني الغزو الخارجي القادم من خارج اليمن كما تعي جيداً ماذا يعني الصراع الداخلي “السياسي والجهوي والمناطقي والطائفي”.. إن ذاكرتها مشبعة بمآس وويلات وهزائم وانكسارات كما هي مشبعة ومترعة بالأفراح والليالي الملاح والتغني بزهر الأقاح والسهر حتى الصباح... تعرف محروسة لحج“الحوطة” كيف تعالج آلامها وتداوي جراحاتها وتخرج من كل تجربة أشد وأصلب عوداً... إنها من ذلك النوع من المدن العاطفية والحساسة التي تنصت لمختلف الأصوات وتتعاطى مع كافة الاتجاهات لكنها في النهاية تنساق وراء صوتها الداخلي وعاطفتها الفطرية الخالصة التي تفتح أمامها المدى وتجعلها أكثر نضجاً مع كل تجربة جديدة. شواهد تاريخية الأرض هنا كما أشرت سابقاً هي الوجه الأبرز والقاسم المشترك غير أن المتأمل في ملامح هذه المدينة يدرك أن معظم الشواهد التاريخية القائمة تعود إلى عهد السلاطين وعموماً وبحسب تأكيد بعض المصادر فإن تاريخ مدينة الحوطة بدأت كعاصمة منذ تدمير مدينة الرعارع في أواخر الدولة الطاهرية وعندما دخل العثمانيون مدينة عدن تحولت العاصمة إلى حوطة بلجفار فتدهورت مدينة الرعارع ولم يعد لها ذكر. وتمضي ذات المصادر إلى التأكيد بأن أول من اتخذ مدينة الحوطة عاصمة للحج هم عمال الإمام المتوكل والإمام المنصور ولا يزال لهما داران في مدينة الحوطة حتى اليوم هما دار حمادي ودار عبدالله.. الشيخ فضل بن علي العبدلي السلامي قام هو الآخر بالانتقال إليها عام 1145ه وأقرها عاصمة للحج وعاصمة لملكه وكان فيها أحد عشر مسجداً وثلاثون بئراً للشرب. مساجد وأضرحة أهم مساجد الحوطة هو المسجد الجامع بناه السيد عمر بن علي المساوى في حين يعد مسجد الدولة الذي بناه السلطان أحمد فضل العبدلي من أجمل المساجد فبجانب رمزيته القائمة من خلال الاسم باعتباره مسجداً للدولة بما يعنيه ذلك من حضور سياسي فاعل وارتباط وثيق بين مفهومي الدين والدولة والجوانب الروحية والمادية، ما يؤكد أن السلطان أحمد فضل العبدلي كان يجب أن يكون رجل دين بجانب كونه رجل دولة، وهي صفة قل أن نجدها في الكثير من رجالات الحكم على امتداد التاريخ القديم والحديث.. مسجد الدولة عموماً يعد آية من آيات البناء والعمران ويحوي العديد من اللمسات والبصمات الإبداعية، هناك كذلك مساجد أخرى شهيرة مثل مسجد الشيخ حسين بن أحمد المساوى ومسجد راجح ومسجد بليل ومسجد قيضاء.. وبجانب المساجد هناك العديد من الأضرحة كضريح الشيخ مزاحم بلجفار وضريح الشيخ سفيان بن عبدالله. قصور القصور السلطانية لا تزال شاهدة حتى اليوم على تلك الليالي والأيام التي كانت الحوطة فيها تنام وتصحو على خفايا وأسرار القصور وأحاديث ربات الخدور على صوت الدان ورقص الجواري والقيان على غرائب السياسة وبدائع الحكمة والكياسة على كل ما يجعل الحياة مقبلة والأحزان مدبرة لذلك يعد قصر السلطان عبدالكريم بن علي بن عبدالله السلامي أبرز معالم الحوطة، حيث قام السلطان ببنائه عام 1847م على غرار وطراز قصور الشرق الأقصى ليظل شاهداً حياً على عظمة الحياة التي كان يحياها السلاطين وترف العيش والنعيم الذين كانوا يتقلبون فيه. في ضيافة الشاعر الأمير في زاوية من زوايا مسجد الدولة يقع ضريح القمندان الشاعر الأمير والأمير الشاعر.. أحمد فضل القمندان رحلة مثيرة ومغامرة خطيرة وأسطورة من أساطير ذلك الزمان رجل عرف كيف يعيش حياته طولاً وعرضاً ويحافظ عليها فناً وفرضاً، رجل كان له فلسفته الخاصة في الحياة، أعطى للناس من حوله ما لم يعطهم غيره من السلاطين، أغدق عليهم من مشاعره وأحاسيسه وآلامه وأفراحه وهمساته وإبداعاته ما جعلهم يعيشون في وجدانه ويعيش في وجدانهم، إنه الأمير الذي راهن على حصان الإبداع للوصول إلى قلوب الجماهير وتماهي مع الطبيعة من حوله ليتحول لحن شجياً ينساب مع كل دفقة شعور ولحظة إبداع تجمع ما بين الطبع والطبيعة والإنسان والكون، إنه فلتة من فلتات الزمان إنه أحمد فضل القمندان. السلطان يفشل في اغتيال الرئيس على الرغم أن الحوطة كانت عاصمة السلطنة العبدلية إلا أن السلطان العبدلي أعجز أن يجد له اليوم مكاناً في نفوس أبناء المدينة، فالسلاطين والأمراء الذين كانوا يملكون البلاد والعباد والسلطة والثروة أصبحوا خبراً من الماضي وأثراً بعد عين.. الناس هنا لا يشعرون بالحنين مطلقاً لذلك العهد بل لا نجد مكاناً في نقاشاتهم لمثل هكذا احتمالات.. الناس هنا في الحوطة فخورون جداً بطرد الإنجليز ولهم في ذلك حكايات وروايات ومواقف وبطولات لا يترددون في الحديث عند كل مناسبة معتزين بما قدموه من تضحيات وبما سطوره من بطولات.. الناس هنا لا يركضون وراء السلطان وخلف خدمه وحشمه، الناس هنا جمهوريون حتى الثمالة، وطنيون حتى العظم، يمنيون حتى آخر نفس ما يعني أن سلطان لحج وعائلته وخدمه وحشمه والمستفيدين منه والمتحالفين معه عجزوا عن إعادة عقارب الساعة إلى الخلف واغتيال الرئيس كمسمى للحاكم وكنظام للحكم بحيث بقيت الحوطة في يد الرئيس ولم تقع في قبضة السلطان. نحو المستقبل الحوطة اليوم تحث خطاها نحو المستقبل بثبات وعزيمة وإصرار وصلقها عجلة التنمية وخطت على صفحتها إنجازات ومشاريع هامة لكنها لا تزال بحاجة إلى المزيد من الاهتمام صور ومشاهد الحياة العصرية والحديثة تملأ الأرجاء والأمكنة، لكن الحوطة تأمل أن تحصل على الكثير مما يتوجب الحصول عليه لتبدو أفضل مما هي عليه الآن، وبخاصة أنها ليست مدينة عادية إنها مدينة لها تاريخها وحضورها وأثرها الفاعل في محيطها المحلي والوطني. رهان لا يمكن لمدينة بحجم الحوطة أن تكون مدينة عادية بل ستبقى الحوطة وكما هو العهد بها مدينة استثنائية.. الرهان يكمن في تضافر مختلف الجهود لإنجاح هذه المدينة وتمكينها من الإمساك بزمام التحديث والتطوير والتوجه نحو الغد الأفضل برؤى واعية وبخطوات واثقة تنتصر على كافة العثرات والتحديات.