شكل مؤتمر الحوار الوطني حراكاً واسعاً وتفاعلاً خلاقاً في أوساط مختلف شرائح المجتمع بمختلف توجهاته ومشاربه، وكانت منظمات المجتمع المدني في صدارة المشهد من خلال قيامها بتنفيذ العديد من الأنشطة والفعاليات من ندوات وورش عمل ومحاضرات هادفة ليس فقط في التوعية بأهمية مؤتمر الحوار وإنجاحه وتنفيذ مخرجاته بل ووفي استقصاء آراء الناس حول مختلف القضايا التي شملها المؤتمر وتوصيلها إلى أمانة المؤتمر للاستئناس بها وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بمشروع الدستور الوثيقة الرئيسية الجامعة لكل محددات وموجهات مخرجات مؤتمر الحوار.. وللوقوف على خلاصة ما توصلت إليه منظمات المجتمع المدني من رؤى وأفكار وتعميماً للفائدة نستعرض هنا الوثيقة التي قام بتنفيذها مركز المعلومات والتأهيل لحقوق الإنسان بتعز خلال العامين الماضيين ومن خلال فريق من الدستوريين المحليين والأجانب بتتبع خلاصة آراء مخرجات أكثر من أربعين منظمة مجتمع مدني على مستوى الجمهورية وأكثر من ألف مواطن من مكونات مجتمعية وسياسية وتجميعها وإعادة صياغتها بشكل ينم عن جهد وحرص مسؤول يعكس مدى الأهمية التي تمثلها وثيقة الدستور بمفهومه الجديد. محاور الرؤية تمحورت الوثيقة «الخلاصة» حول ثلاثة محاور رئيسية؛ نتناولها تباعاً على النحو الآتي: أولاً: نظرة المجتمع للمرتكزات الأساسية لمشروع الدستور وفي هذا ركزت الرؤية على الإجابة على عدد من التساؤلات الخاصة بماهية مضامين الدستور ومقتضياته فيما يخص شرعنة السلطة وتنظيم ممارسة الحكم وكيف يمكن الانتقال به من دستور فصل السلطات إلى دستور صك الحقوق. ففي ما يتعلق بالمضامين انطلقت الرؤية مما يؤكد عليه فقهاء القانون الدستوري من كون الدولة شخصاً من أشخاص القانون العام تملك السلطة والسياسة، ولابد لها من دستور يدعم مشروعيتها ويعطيها المصداقية الدولية، بالإضافة إلى تحديد اختصاصاتها وتقنين صلاحية الحاكمين والممارسين للسلطة، وخلصت الرؤية إلى أنه لابد من أن تحتوي الدساتير على مقتضيات ومشروعية للحكم ومقتضيات منظمة لممارسة الحكم ومقتضيات خاصة بإعلان حقوق الإنسان، والنص عليها بصورة واضحة ودقيقة غير فضفاضة بوجود هيئة مستقلة تسهر على احترامها، مع ضرورة أن يحتل الباب الخاص بهذه الإعلانات مقدمة الدستور وواجهته الأساسية, كما شددت العديد من المشاركات على أن يتضمن الدستور إلى جانب المبادئ الكبرى المواطنة المتساوية, وضمان الحقوق المدنية والسياسية, والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, والفصل بين السلطات العامة في الدولة, وتداول السلطة أو التناوب على الحكم والذي يتجسد من خلاله أهم مضامين الديمقراطية المعاصرة التعددية, وحكم الأغلبية مع احترام حقوق الأقليات. ثانياً: نظرة المجتمع للضوابط اللازمة لصياغة الدستور وصيانته إن أغلبية النقاشات التي دارت بين مختلف المكونات أكدت أن العلاقة بين فكرة الدستور ومطلب الديمقراطية وتحقيق الحقوق والحريات مثلت في الفكر السياسي معادلة غير قابلة للانفصام أو الانفصال، ولذلك فإن منظمات المجتمع المدني تؤكد على أن التجارب الحديثة للأنظمة السياسية وما أفضت إليه الثورات الشعبية التي شهدتها العديد من الدول قد أثبتت أهمية وجود نظام سياسي بدستور، وبما يؤدي ممارسة النظام في الحياة السياسية إلى انعكاسات إيجابية على الحقوق والحريات والاستقرار، وأن يشكل الدستور مشروعاً اجتماعياً يحدد توجهات سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية، بالإضافة إلى ما تقدم لابد أن يظل الدستور عماد الديمقراطية وتجاوز الطرح التقليدي لماهية الدستور؛ كونه عقداً اجتماعياً بين مختلف فئات المجتمع يكفل الحقوق والحريات. وبالتالي يؤكد الجميع ضرورة أن تتصدر أية وثيقة دستورية النص على أن الشعب مانح السلطة، وأن تكون الوثيقة خالية من كل ما من شأنه إتاحة الفرصة مجدداً للاستبداد، والتي تشكل في مجملها الضمانات الواقعية لقيام الدولة المدنية التي تمثل أداة لقياس مدى تحقيق الدولة المؤسسية بمقوماتها التشريعية والمؤسسية والحقوقية في الواقع العملي وبصورة تتسم بالديمومة والثبات مع تبدل الأشخاص، والتي لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال المشاركة السياسية الفاعلة وشيوع الثقافة المدنية, وتحقيق سيادة القانون واعتماد الشفافية والحكم الرشيد، إضافة إلى ترسيخ الديمقراطية المحلية. وخلصت النقاشات إلى التأكيد على حيادية المؤسسة العسكرية والأمنية في أي صراع سياسي، وعدم تسخيرها لأغراض شخصية أو حزبية أو طائفية. وفيما يتعلق بالمحددات العامة للدستور خلصت الرؤية إلى ضرورة أن يضمن الدستور تأسيس السلطة على اختيار شعبي حر، ووضعها لخدمة الشعب وتحت مراقبته، والانتقال من دستور فصل السلطات إلى دستور صك الحقوق بقضاء مستقل لصالح المحكومين وقضاء دستوري أيضاً، وإلى جانب تلك المحددات تدرك المنظمات من أنه لابد أن تكون هناك مقدمات عملية ينبغي البدء بها في وثيقة العقد الاجتماعي سواء من حيث الصياغة أو من حيث المضمون؛ بحيث تتجنب الصياغة أية عبارات أو إشارات أو إحالات، من شأنها فتح المجال لأية انتقاصات من الحقوق والحريات، وأن يستبعد من نصوص الدستور كل ما يمكن أن يفهم منه وجود أية تفرقة بين المواطنين في الحقوق والحريات والنص بوضوح على قدسيتها. ثالثاً: رؤية المجتمع لقيمة ومكانة الوثيقة لاشك أن المكانة التي يحتلها الدستور في مختلف التجارب الديمقراطية كانت نتاج نضال طويل وتجارب ترسخت في واقع الممارسة سواء من حيث اعتماده كقانون أساسي أو بالجهة المناط بها وضع قواعده وأحكامه ومدى مواكبته للتطور بما في ذلك صياغته والجهة المناط بها الصياغة. وفي هذا الشأن أشارت الخلاصة إلى أهم النقاط التي أثارت جدلاً واسعاً بين الفقهاء السياسيين وعموم المواطنين خصوصاً مع الطرح القوي للقضية الجنوبية ومسألة شكل الدولة الأنسب لليمن الجديد، وفي هذا يمكن القول: إن مختلف الاتجاهات قد توافقت على ضرورة الأخذ بفكرة الاتحاد الفيدرالي من عدة أقاليم بحكومات محلية، إلا أن هناك تباينات ظهرت فيما يتعلق بكيفية وظرفية البدء بتطبيقها؛ حيث برز اتجاهان اثنان: الأول: يرى أن الانتقال إلى الدولة الفيدرالية أمر ضروري وأن يكون مرحلياً، فيما يرى أصحاب الاتجاه الثاني: وهم الغالبية ضرورة البدء الفوري بالانتقال إلى الدولة الفيدرالية متعددة الأقاليم واستغلال الدعم الدولي والظروف التاريخية لإنجاز هذا الخيار والشروع بتقسيم الأقاليم بناء على أسس ومعايير مضبوطة تأخذ في الحسبان المعايير الجغرافية والسكانية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبما يحقق التجانس الاجتماعي والرغبة في العيش المشترك بين أبناء الإقليم الواحد، وهو ما استخلصته الرؤية من مجمل الآراء المطروحة.