(1) القرآن المجيد حدّد لنا مجموعة من القيم العليا الحاكمة، وأمرنا بضرورة مراعاتها وتحقيقها في حياتنا، ويستطيع القارئ للقرآن المجيد المتدبّر في آياته وسوره وسياقاته أن يجد هذه المقاصد والقيم العليا الحاكمة في سور عديدة من القرآن المجيد، كما يستطيع أن يقسّمها أقسامًا عديدة، بعضها أساسي يمكن أن يندرج في قيم ومقاصد ضروريَّة، فبعضها يمكن أن يحتل أعلى المراتب، وبعض آخر يتدرّج فيأخذ مراتب أخرى. والقيم العليا الحاكمة، وليسمها من يشاء بالمقاصد القرآنيَّة العليا الحاكمة، يمكن حصرها في قيم خمسة عليا هي: (التوحيد وهو الأساس، والتزكية، والعمران، والأمَّة، والدعوة)، فالتوحيد حق الله (جل شأنه) على عباده، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ، فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} «النحل:36» {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} «محمد:19» فالتوحيد هو أساس الإيمان، وسنام الإسلام، ودعامة الإحسان؛ لا يقبل فيه أي تساهل أو تهاون بأي شكل من الأشكال. وأمَّا التزكية فهي جماع مؤهلات الإنسان للوفاء بعهد الله، والقيام بمهمة الاستخلاف والمحافظة على الأمانة، والاستجابة لنداء العمل حتى بلوغ حالة الجزاء {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} «الشمس:9-10» وبالتزكية ربط الله «جل شأنه» الفلاح والنجاح في هذه الأمور كلها، وإذا لم يحقّق الإنسان التزكية في نفسه فإنَّه آيل إلى الخسران والضلال، ولن ينتفع في الآخرة بأعماله ولن ينتفع بعمل نفسه {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} «الفرقان:23». وأمَّا العمران فإنَّه حق الكون والطبيعة علينا، لابد من تحقيقه، فلو فشل الإنسان فيه فإنَّه يكون قد فشل في مهامه الأخرى، {.. هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا..} «هود:61» فامتن الله تعالى على البشرية بخلقهم من الأرض فهم أبناؤها وأوكل إليهم مهمة إعمارها وإحياء مواتها، ومن أولى من الأبناء بخدمة أمهم والحرص على حياتها والتجديد الدائم المستمر لتلك الحياة. ورد الاعتبار لمبحث العمران هو واجب مهمّ نظرًا لما تمرّ به أمتنا الإسلامية من ضعف ذاتيّ وعدم تمكين واستضعاف من الآخرين وتخلّف عن ركب الحضارة، وكأنَّ المسلمين نسوا قول الله تعالى: {.. هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا..} «هود:61» فأخلدوا إلى الأرض واتبعوا أهواءَهم، ولم يعدّوا ما استطاعوا من القوة المادية، وقَصَّروا في القوة الروحية والنفسيَّة التي يُفترض أنَّهم حاملوا أمانتها، وقصَّروا في تحرّي أسباب الرفعة أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، وهو ما جعل هذه الأمَّة خير الأمم كما أخبر ربنا: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ..} «آل عمران:110» ولا يقتصر الأمر بالمعروف - كما يُظن - على المعنى الشرعي حصرًا، بل إنَّ إعمارًا لمنطقة ميتة هو أمر بمعروف، كما أنَّ منع فساد في الأرض والبحر يُلحق بالإنسان الأذى هو نهيٌ عن منكر. ثم تأتي عمليَّة بناء الأمَّة؛ لأنَّ هذه المقاصد العليا الحاكمة لا يستطيع تحقيقها على الوجه المطلوب والقيام بها وحسن أدائها إلا أمَّة متضافرة متآخية متضامنة تحمل هذا العبء باعتبارها أمَّة {.. وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا..} «البقرة:143» {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّه..} «آل عمران:110». ثم يأتي عنصر الدعوة؛ لأنَّ الرسالة الخاتمة رسالة عالميَّة، فهي جماع رسالات الرسل وما أنزل عليهم، جاءت والناس صنفان، صنف كافر بالله، أشرك به ما لم ينزل به سلطانًا، وصنف أهل كتاب غيّروا وبدّلوا وحرّفوا، فكان لابد من تصحيح ما فعلوا بتصديق الكتاب الخاتم وهيمنته وإعادة الطُهر والنقاء والصفاء والصدق والصحة إلى تلك الكتب والصحف المنزلة، ليكون الدين لله ويظهر على كل ما أضافه البشر وزادوه، أو حرّفوه مما زعموا أنَّه دين، من أديان وضعيَّة افتعلها من افتعلها، ووضعها من وضعها، ليصد الناس عن سبيل الله، فتتجه الأمَّة بالدعوة إلى هذه القيم والمقاصد، ليظهر دين الله على الدين كله ولو كره الكافرون {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} «الصف:9».