لأول مرة تتهيأ لي الظروف لعبور مدينة رداع وزيارة مناطق ما بعد هذه المدينة شرقاً باتجاه مدينة البيضاء عاصمة المحافظة وقد هالني وأنا أجول ببصري من على متن السيارة الصالون رصاصية اللون التي كانت تقلني وبعض الزملاء إلى انتشار ظاهرة حمل السلاح بين أبناء العشائر الممتدة والمتناثرة على جانبي الخط الإسفلتي وكأن قطعة السلاح المدلاة على الأكتاف هي الرفيق الذي لاغنى عنه في الحل والترحال وتشير في نفس الوقت إلى أنها أي قطعة السلاح جزء لا يتجزأ من مميزات وعلامات الرجولة هناك. لذلك نرى أن حمل السلاح على اختلاف أنواعه لا يقتصر على الكبار فقط بل يمتد ليشمل شريحة واسعة من صغار السن الذين يتوقون لتقليد الكبار في كل حركاتهم وسكناتهم لهذا لا عجب أن تشتهر معظم قرى ومديريات محافظة البيضاء بالثارات القبلية التي لا يكاد يهدأ زئيرها. وفي منطقة “عفار”تحولت بنا السيارة شمالاً في طريق أسفلتي باتجاه قبيلة الوهبية ..وبالتحديد بني وهب التي دعينا إليها في مناسبة خاصة ومن حسن الطالع أن الزيارة تلك كانت بُعيد انقشاع حرب قبلية مسلحة بين قرية العُبس وبني وهب استخدم فيها مختلف الأسلحة الخفيفة والمتوسطة وخلال سؤالنا المتطفل عن أسباب وبواعث تلك الحرب عرفنا أن شخصاً ينتمي إلى بنى وهب أراد أن يثأر من قاتل والده الذي ينتمي إلى قرية العبس لكن العملية لم تكتمل ونجا المستهدف إلا من بعض الإصابات لكنها في مجملها لم تكن خطيرة وبما أن ثقافة هذه المناطق النائية تحتكم في معالجة أغلب قضاياها إلى فوهات البنادق إذا ضاقت الصدور نظراً لقلة الوعي فقد أعدت قبيلة المصاب كميناً لاغتيال المعتدي على أحد أفرادها مستفيدين في عملية الرد هذه على الموقع الجغرافي فالخط الإسفلتي المفضي إلى قبيلة بين وهب يمر عبر قرية العبس والذي سهل أيضاً عملية الترصد والملاحقة وفي نقطة محددة من الخط المقابل تماماً لنوافذ مبنى المدرسة الذي يفصله عن الرقعة الإسفلتية السوداء عشرة أمتار فقط تم وضع مطب يرغم أي مركبة على تخفيف السرعة لاجتيازه وعندما وصلت السيارة التي تقل مجموعة من بني وهب بينهم الشخص (الهدف) انهالت زخات من الرصاص الحي على السيارة المقصودة مما أدى إلى مقتل شخص وإصابة آخر فيما نجا الشخص المستهدف من الموت بأعجوبة. قبائل بني وهب المجاورون لقرية العبس شعروا بنوع من الإهانة فبدلاً من بحثهم على قتل شخص واحد ليتساوى عدد القتلى بين الطرفين هاهي المطالب ترتفع إلى شخصين فهبوا جماعات ووحدانا لمحاصرة هذه القرية الصغيرة وبعد إحكام الحصار دخل الطرفان في حرب واشتباكات عنيفة كانت الغلبة فيها تقترب من الطرف المحاصر( بكسر الصاد) في ظل تقلص جهود الدفاع عن القرية لولا تدخل وحدات من قوات الجيش التي فضت النزاع. يقول أحد التربويين القادم من محافظة تعز للتدريس في مدرسة قبيلة الوهبية التي تقع في إطار مديرية السوادية إن حجم الذخيرة التي استنفدتها هذه الحرب القبلية الضروس كان هائلاً ولو وظفت في مجال تطوير البيئة التحتية للمنطقة لكان لها جدواها وفوائدها على الجميع. قيادة المحافظة لم تقف مكتوفة اليدين فقد سارع المحافظ محمد ناصر العامري مع بعض المشائخ بالنزول إلى المنطقة والالتقاء بوجوهها وقام بتحكيم بني دهب بعدة بنادق إضافة إلى 500 ألف ريال ومن ثم عقد هدنة بين الطرفين لمدة 6 أشهر ويؤكد عدد من أبناء القبيلة أن الشيخ صالح الوهبي الذي قطع زيارة علاجية للأردن الشقيق كان له دور بارز في تهدئة النفوس وإيقاف الحرب وعقد الهدنة. مستشفى الوهبية أوضاع رديئة على الرغم من أن مديرية السوادية التي تقع هذه القبيلة في نطاقها الإداري تقبع تحت خط الفقر ويعانون من إشكالات تنموية جمة يحرص أفرادها على ادخار وتكديس الذخيرة والسلاح «تحسباً ليوم الجن» وما أكثر أيام الجن هناك ويشير مدير مستشفى الوهبية الريفي «نعمان الوهبي» أن الوضع الصحي في غاية السوء فالسواد الأعظم من هذه المجتمعات المجاورة لقبائل مراد التابعين لمحافظة مأرب من جهة الشمال قد يصبرون على أمراضهم لقلة ما في اليد فمن ينقلهم إلى مستشفيات البيضاء أو رداع ويؤمن تكاليف العلاج في ظل انعدام الخدمات الطبية المقدمة من مستشفى الوهبية وكتأكيد على هذا الكلام دعانا لزيارة خاطفة للمستشفى المشرف على الطريق الإسفلتي تماماً. كان المستشفى كبيراً وضخماً ومجهزاً بأحدث الأجهزة الطبية التي جاءت بمنحة من فخامة الأخ علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية في العام 1997م وبالرغم من ذلك ومع مرور 14 سنة تقريباً لاتزال هذه الإمكانات خارج نطاق الخدمة داخل صناديقها وأكياسها التي علاها طبقات من الأتربة التي تنتشر على الجدران والردهات والغرف والفناء والسبب إهمال وزارة الصحة ومكتبها في المحافظة رغم المتابعة من رفد المستشفى كما يفيد المدير بكادر طبي ودعمه بنفقات تشغيلية مناسبة وكل ما يتقاضاه المستشفى 20 ألف ريال شهرياً.. لكن يعود المدير ويعول على قائد وحدة الحرس الجمهوري هناك الذي وعده بأن بعض مشكلة المستشفى على قيادة الحرس التي يتوقع أن تبادر في انتشال المستشفى من وضعه الراهن. مجلس المحافظ في تمام الساعة الرابعة عصراً من نفس اليوم مغادرتنا لمديرية السوادية كنا في مقيل المحافظ محمد ناصر العامري الذي استقبلنا ببشاشة وبدت عليه علامات الوقار والاتزان وصادف أن كان الموجودون سواء الأمين العام للمجلس المحلي بالمحافظة ناصر الخضر السوادي ووكيل المحافظة الشيخ حسين الرصاص ومدير الأمن العميد نجم الدين هراش وآخرون يناقشون قضية الوهبية التي بدا أنها أخذت هامشاً كبيراً من اهتماماتهم وحملت إشارات لا تخطئها العين على قضايا الثأر الكثيرة التي تثقل كاهل التنمية في تلك المحافظة التي تساقط ضحاياه بصورة شبه يومية.. وما أثار دهشتي وأنا أناجي الشيخ حسين الرصاص الوكيل المساعد ان قضية الوهبية ليست وليدة اليوم بل تعود أسبابها إلى اقتتال تفجر بين الجانبين منذ العهد الإمامي البائد أي ماقبل 50 عاماً تقريباً لتستمر آثارها وضحاياها من الجانبين حتى اليوم وقد تدخل مشائخ من قبيلة مراد مأرب قبل سنة لحل الخلاف بحكم قرب المنطقة وتم أخذ 5 ملايين من كل طرف إلا أن مقومات تلك الأحكام لم تتوفر لها النوايا الحسنة أو السعي الجاد مما أدى إلى تجدد الاقتتال بعد سنة فقط من تحرير تلك الأحكام. انطفاء الكهرباء اللافت أنه ومع اقتراب موعد أذان المغرب لاحظنا وضع مصباح صناعة صيني على ردهة المنزل المقابل للغرفة لتكتشف أن مدينة البيضاء تسبح في الظلام الدامس وانقطاع التيار الكهربائي بسبب موظفي منطقة الكهرباء الذين كان لهم مطالب ناقشها ممثلون من المنطقة مع المحافظ على مرأى ومسمع منها فوافق المحافظ على بعض المطالب التي يمكن أن توفرها السلطة المحلية فيما المطالب الأخرى تتم معالجتها بالتنسيق مع الإدارة العامة للمؤسسة.