موعد الضربة القاضية يقترب.. وتحذير عاجل من محافظ البنك المركزي للبنوك في صنعاء    صحفي سعودي: ما بعد زيارة الرئيس العليمي إلى مارب لن تكون اليمن كما قبلها!    لأول مرة في تاريخ مصر.. قرار غير مسبوق بسبب الديون المصرية    لحظة وصول الرئيس رشاد العليمي إلى محافظة مارب.. شاهد الفيديو    قائمة برشلونة لمواجهة فالنسيا    المواصفات والمقاييس ترفض مستلزمات ووسائل تعليمية مخصصة للاطفال تروج للمثلية ومنتجات والعاب آخرى    رئيس كاك بنك يشارك في اجتماعات الحكومة والبنك المركزي والبنوك اليمنية بصندوق النقد والبنك الدوليين    - عاجل امر قهري لاحضار تاجر المبيدات المثير للراي العام دغسان غدا لمحكمة الاموال بصنعاء واغلاق شركته ومحالاته في حال لم يحضر    مدير شركة برودجي: أقبع خلف القضبان بسبب ملفات فساد نافذين يخشون كشفها    العميد أحمد علي ينعي الضابط الذي ''نذر روحه للدفاع عن الوطن والوحدة ضد الخارجين عن الثوابت الوطنية''    يونيسيف: وفاة طفل يمني كل 13 دقيقة بأمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات    وفاة امرأة وإنقاذ أخرى بعد أن جرفتهن سيول الأمطار في إب    رغم القمع والاعتقالات.. تواصل الاحتجاجات الطلابية المناصرة لفلسطين في الولايات المتحدة    الهجري يترأس اجتماعاً للمجلس الأعلى للتحالف الوطني بعدن لمناقشة عدد من القضايا    منازلة إنجليزية في مواجهة بايرن ميونخ وريال مدريد بنصف نهائي أبطال أوروبا    استهداف سفينة حاويات في البحر الأحمر ترفع علم مالطا بثلاث صواريخ    افتتاح قاعة الشيخ محمد بن زايد.. الامارات تطور قطاع التعليم الأكاديمي بحضرموت    الذهب يستقر مع تضاؤل توقعات خفض الفائدة الأميركية    اليمن تحقق لقب بطل العرب وتحصد 11 جائزة في البطولة العربية 15 للروبوت في الأردن    ''خيوط'' قصة النجاح المغدورة    واشنطن والسعودية قامتا بعمل مكثف بشأن التطبيع بين إسرائيل والمملكة    وفاة ''محمد رمضان'' بعد إصابته بجلطة مرتين    «الرياضة» تستعرض تجربتها في «الاستضافات العالمية» و«الكرة النسائية»    الريال اليمني ينهار مجددًا ويقترب من أدنى مستوى    كانوا في طريقهم إلى عدن.. وفاة وإصابة ثلاثة مواطنين إثر انقلاب ''باص'' من منحدر بمحافظة لحج (الأسماء والصور)    بين حسام حسن وكلوب.. هل اشترى صلاح من باعه؟    للمرة 12.. باريس بطلا للدوري الفرنسي    السعودية تكشف مدى تضررها من هجمات الحوثيين في البحر الأحمر    ريمة سَّكاب اليمن !    الشيخ هاني بن بريك يعدد عشرة أخطاء قاتلة لتنظيم إخوان المسلمين    في ذكرى رحيل الاسطورة نبراس الصحافة والقلم "عادل الأعسم"    نداء إلى محافظ شبوة.. وثقوا الأرضية المتنازع عليها لمستشفى عتق    حزب الرابطة أول من دعا إلى جنوب عربي فيدرالي عام 1956 (بيان)    السعودية تعيد مراجعة مشاريعها الاقتصادية "بعيدا عن الغرور"    الأحلاف القبلية في محافظة شبوة    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    طلاب جامعة حضرموت يرفعون الرايات الحمراء: ثورة على الظلم أم مجرد صرخة احتجاج؟    عودة الحوثيين إلى الجنوب: خبير عسكري يحذر من "طريق سالكة"    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    جماعة الحوثي تعلن حالة الطوارئ في جامعة إب وحينما حضر العمداء ومدراء الكليات كانت الصدمة!    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    كل 13 دقيقة يموت طفل.. تقارير أممية: تفشٍّ كارثي لأمراض الأطفال في اليمن    طوارئ مارب تقر عدداً من الإجراءات لمواجهة كوارث السيول وتفشي الأمراض    البنك الإسلامي للتنمية يخصص نحو 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية جديدة في الدول الأعضاء    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زخّات متناثرة في ذكرى مرور 40 عاماً على استشهاده
عبد القادر سعيد.. زعيم وطني لزمن لم يأتِ بعد
نشر في الجمهورية يوم 23 - 05 - 2014

ما الذي نستنتجه عندما يصفه مفكّر يمني كبير ومناضل صلب كالأستاذ عبدالباري طاهر ب «إنه جزء أصيل من الضمير والوجدان الوطني. ويُجمع كل من عرفوه على أنه رجل المهمات الاستثنائية بامتياز، في حين إن حضوره الفريد بين أوساط العمال والمثقفين والطلاب والتجّار والعسكر والوجهاء ساهم كثيراً في انتشار شعبية الحزب الديمقراطي ووفرة المنتمين النوعيين إلى صفوفه».
وماذا يمكننا أن نفهم من وصف «حكيم أدباء اليمن» الأستاذ أحمد قاسم دماج الذي كان حاضراً لحظات زفاف جسده المسموم إلى الرفيق الأعلى حينما قال: «كان عبد القادر سعيد حيوياً وعميقاً، ومثقفاً من طراز نادر، كما تمتاز مهارته بالتوازن الهادف والنقد الذاتي والاحتواء، وتلك البديهة العقلانية والعاطفية التي كالبرق».
وما الذي كان يرمي إليه الشهيد جار الله عمر قبل أن يغادر زمن وطن مازال واقفاً عند عتبات الفجر منذ بضعة عقود، وكأنه كان على يقين بدنو الفراق الذي تأجل مرات عدة فأراد أن ينقل وصية تاريخية لا يجب أن تتأخر حين انبرى مختزلاً شهادته: أقول للتاريخ إن عبد القادر سعيد، كان الرجل الأكثر نضجاً والأكثر تطوراً منا جميعاً.
ثمة شهادات مهمة أخرى سنأتي عليها في ثنايا هذه الشذرات المتناثرة في ذكرى مرور 40 عاماً على استشهاد زعيم وطني لزمن لم يأتِ بعد هو الشهيد عبد القادر سعيد أحمد طاهر الذي رحل كعشرات العظماء قبل الأوان.
توطئة لا بد منها
قبل بضعة سنوات كتبت مقالة قصيرة بعنوان «عبد القادر سعيد... ماذا تبقى من سيرته النضالية النادرة؟» نشرتها صحيفة الثوري وفيها دعوت كل من كانت تربطه صلة بالفقيد من رفاق دربه في النضال السياسي أو النقابي أو معاصريه في الحركة الوطنية أو من أصدقائه الذين عملوا معه خلال عقد الستينيات وبداية عقد السبعينيات الكتابة عما يعرفونه عنه براءة للتاريخ والذمة.
لكن و يا للأسف الشديد ذهبت دعوتي تلك أدراج الرياح باستثناء أربعة مقالات لم تُكتب ممن كنت أنتظر منهم المبادرة بتذكر رحلاتهم النضالية وغيرها من المواقف التي لا يجب أن يطمرها النسيان عن الشهيد عبد القادر سعيد، وإنما أربعة مقالات من جيل وُلد في فترة نضال الشهيد عبد القادر سعيد نحو الكاتب أمين محمد شرف أو جيل ولد بعد رحيله نحو مقالات للزملاء الرائعين (خالد عبد الهادي، وفتحي أبو النصر، وأحمد عثمان)، وبات واضحاً أن هذين الجيلين أكثر وفاءً من المجايليين أكانوا رفاقاً أم كتّاباً لهذا الزعيم الوطني العابق حبه في قلوب المستنيرين من شرفاء الوطن ومثقفيه الحقيقيين.
ولهذا لا غرابة إن وجدت ثمة مفردات أو جمل أو أفكار مقتبسة من مقالتي (أبو النصر، وعبد الهادي) في سياق هذه المادة من قبيل الاتفاق معهما على تأصيل ما بلغنا أو وصلنا من بقايا زخات أسفار هذا المناضل الذي يُظلم وهو ميت شهيد أكثر مما ظُلم وهو حي مناضل.
أهمية الكتابة عن عبد القادر سعيد
إن إعادة الكتابة عن الشهيد عبد القادر سعيد، وغيره من رموز الحركة الوطنية تعتبر في جوهرها محاولات ضئيلة لتطهير تاريخنا القريب مما لحقه من طمس وتحوير وتزيف ممنهج اضطلع به الذين حكموا هذه البلاد خلال العقود الثلاثة الأخيرة فعاثوا فيها الفساد.
لقد أتوا على كل تاريخ الحركة الوطنية.. طمسوا جل معالمه.. زيفوه.. وشوهوا حقائقه إلى حد تمكنوا فيه من خلق قطيعة سواء بين حقائق الأحداث، وعامة الناس التي عاصرت تلك الحقائق أو بينها والجيل الذي تلاها.
ومن نتائج تلك القطيعة إنهم تمكنوا من الاستمرار ما يقارب العقود الأربعة في السيطرة على حكم البلاد ورقاب العباد بالعنجهية، والغطرسة، والجهالة، واستنزاف الثروات والأموال، ووأد فرص التحول، وشروط ممكنات التطور التي كانت تُتاح من وقت إلى آخر.
إن أية قطيعة لجيل مع ما سبقه من حقائق وقعت تجعله غير قادر على الانطلاق صوب المستقبل لكون المنطلقات التي يجب أن ينطلق منها تكون مزيفة غير صحيحة فوعيه مشدود بإرث مشوّه يصعب الفكاك منه، يستحيل إزاءه أن يتنازل عن ذلك الإرث حتى وإن خسر في سبيله كل شيء.
ونحن معشر الكتّاب وقبلنا رموز الاستنارة والتنوير من رواد الصحافة الرسمية نتحمل المسؤولية التاريخية عن استمرار تلك القطيعة بين هذا الجيل وما سبقه من حقائق الأحداث.
من هذا القبيل وفي تصوري وكثيرين يقفون إلى جانبي لسنا مستعدين لأن تبقى هذه القطيعة قائمة عندنا ما دمنا قريبين من الجيل الذي سبقنا، وقادرينا على إبطال ما زيف أو إظهار ما رُدم من تاريخ وسير مناضلين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، خصوصاً، وان كثيراً من معطيات الأحداث قد أثبتت صحة ما وصل إلينا من أنباء الوقائع التي راح ضحيتها الكثيرون من خيرة أبناء هذا الوطن الذي يعد الفقيد عبدالقادر سعيد طاهر واحداً منهم.
فلمصلحة من تبقى سيرة واحد من أهم رجال التحديث، والحوار الوطني، والنضال في صفوف الحركة الوطنية الحديثة في اليمن مغيّباً كل هذا التغييب؟
لهذا سأغامر في كتابة هذه المادة على نحو مغاير لما سبق أن كتبته عن (الشهيد) وعن كتابات آخرين.. سأكتب كتابة تقوم على استقراء المعالم الواضحة من معطيات التحولات التاريخية التي كان الشهيد مشاركاً في تشييدها مع من شيدها، وعلى طبيعة الصيرورة الزمنية لحركة الأحداث التي وقعت، وكان حاضراً داخلها بقوة، وعلى من رثاه من الشعراء الكبار، أو وصف جنازتيه سواء الحقيقية في تعز أو الرمزية في عدن، وعلى شهادات الذين عاصروه.. كيما أقف بالقارئ أمام الملامح الباقية من الزخات المتناثرة لسفر نجم كان هناك يقود البحر إلى ذاتَ حينِ غاياتٍ كبيرةٍ من أجل أن نأتي نحن هذا الجيل، وقد قُطع شوط كبير في مسار التغيير الذي ما نزال نحلم به وننشده.
وامتثالاً لما قاله (صندوق اليمن) وفقيد الحركة الوطنية المناضل الكبير عمر الجاوي: (والذين يحبون الحركة الوطنية اليمنية ويناضلون من أجل ازدهارها، عليهم أن يدرسوا مآثر وحياة هذا الشاب الفذ “عبد القادر سعيد أحمد طاهر” حتى يتمكنوا من الاستفادة منها في الظروف التي نعيش. لقد كان رسول سلام بين الحركة الوطنية بكل الصفات الشاملة. ولذا يتطلب وضع تجربته أمام الجماهير لدراستها والاستفادة منها. !!)(2) ، ومن هذه الجملة الأخيرة التي يطالب مناضل كبير بحجم الأستاذ عمر الجاوي وضع تجربة المناضل عبد القادر سعيد أمام الجماهير لدراستها والاستفادة منها نكتشف أهمية الكتابة عنه.
ولكن ماهي الكتابة التي يجب أن ننتقي نوعها ونحن نكتب عنه؟
منهجية تدوين بقايا شذرات سِفره النضالي.
إن من يضطلع بمهمة البحث عن المنابع الأساسية الأولى التي تكونت منها الروافد الموضوعية لتجربة الشهيد عبد القادر سعيد المتعددة المجالات سيصطدم باستحالة اقتفاء آثار أي من تلك الروافد ومعرفة منابعها.
وأول ما يصطدم به هو عدم معرفة تاريخ الميلاد بدقة ما تشير المعلومات إلى أنه من مواليد عام 1941م.
لكن متى من هذا العام؟ أفي بدايته ولد أم في ربعه؟ في نصفه أم في نهايته؟
كما إن حياته خلال السنوات ال (18) سنة الممتدة من عام 1941 حتى نهاية العام 1958 من إجمالي (34) سنة وهي الأكثر من عمر الشهيد عبد القادر سعيد لا تزال في طي المجهول ناهيك عن أن تفاصيل السنوات ال (15) سنة من 1959 حتى تاريخ استشهاده هي أيضاً تكاد تكون شبه مغيبة إن لم تك قد غُيبت عدا تلك القصائد التي رثته عقب استشهاده كقصيدة (الرحيل قبل مجيء الفَجْر) للدكتور عبدالعزيز المقالح، وقصيدة (مرْثِيَّة لَفَقِيْد الْحَرَكَة الْوَطَنِيَّة عَبْدُالْقَادِر سَعِيْد أَحْمَد طَاهِر) لرفيق دربه المناضل الخالد الذكر رئيس جمهورية اليمن الديمقراطية الأسبق الشهيد عبد الفتاح إسماعيل.
وما عدا تلك الرثائيات ثمة شهادات ذات عبارات معدودة الكلمات من بعض المناضلين كثر الله خيرهم أنهم قالوها غير أنها وإن كانت قوية الدلالة الفكرية والفلسفية تظل عبارات معدودة لا تشبع جوع المؤرخ ولا الكاتب ولا الباحث الراغب في وضع تجربة الشهيد موضع الدراسة لتستفيد منها الأجيال، لأن تلك الشهادات وبعض الكتابات لم تتحدث عن مواقف سِيَرِيَّة (بكسر السين والراء، وفتح الياءين مع تشديد الياء الثانية) وإنما عبارات إنشائية استعراضية للمخزون اللفظي والسياسي لهذا الشاهد أو ذاك الكاتب منحصرة عن مناقب وسمات وصفات ليس إلا.
وهنا لا أسال فقط رفاق الشهيد وحزبه الذي كان من أوائل مؤسسيه، وإنما أسأل كل المعنيين بمستقبل هذا البلد من شرفائه سياسيين ومؤرخين ورواد صحافة وفكر وأدب: هل تستطيعون سرد سيرته في مؤلف تاريخي أو روائي أو فيلم وثائقي أو سينمائي؟
ولأن الإجابة بالتأكيد: لا.. فإنه يستحيل أن نضع تجربة هذا الرمز الوطني موضع الدراسة كما يرى (الجاوي) ما دامها لم توثق حتى الآن، لهذا يجب اعتماد منهجية معينة لتدوين بقايا شذرات السِفر النضالي الذي كباقي وشمٍ يلوح على جبين تاريخنا المعاصر.
وأهم عناصر هذه المنهجية أولاً: أقاربه ينبغي عليهم تدوين ما يقدرون عليه من سيرته الإنسانية التي كانوا على صلة بها، وثانياً: رفاق دربه النضالي في الحزب الاشتراكي اليمني و تحديداً أعضاءه من فصيلي “ الحزب الديمقراطي الثوري اليمني” و “منظمة المقاومين الثوريين” برصد محطات سيرته النضالية والسياسية، وثالثاً: الذين عملوا معه أكانوا في البنك المركزي اليمني أو في غيرها من الأعمال الأخرى برصد دوره المهني والإداري والاقتصادي، ورابعاً: إشراك خصومه السياسيين من الأحزاب السياسية الأخرى، فهم غير معفيين أيضاً من الكتابة عن الكيفية التي كان يدير علاقاته واختلافاته الفكرية معهم، وعلاوة على هؤلاء هناك كثير من المثقفين والكتاب والصحافيين ممن عاشوا فترته، واقتربوا منه واستمعوا إليه.. كل أولئك ملزم تبرئة ساحته مما يعرفه عن الفقيد ولم يكتبه أو يوثّقه.
أما بالنسبة لي فقد اعتمدت منهجية للكتابة عن الشهيد: تقوم على توظيف طريقتين:
- الطريقة الأولى: المقارباتية، وأقصد بها مقاربة شذرات من سيرته بربطها بأحداث وتحولات كان الشهيد حاضراً فيها بفاعلية وديناميكية سواء على مستوى الحياة داخل التكوينات السياسية والنقابية التي شارك في تأسيسها أو على الحياة خارجها وأقصد بها علاقاته ببقية أطراف الحركة الوطنية وفصائلها المختلفة.
- الطريقة الثانية: الاستقرائية القائمة على عنصري الملاحظة والتجربة (منهجية فرانسيس بيكون).
بيد أنني علاوة على هاتين الطريقتين أعتمد كل ما جمعته من معلومات متناثرة منذ أكثر من عقد ونصف العقد من السنوات من كثيرين عن قرب تعرفوا إليه أكانوا من رفاقه أو ممن عملوا معه، ومن خلال قراءات مكثفة لتاريخنا المتشابك والبالغ التعقيد ولطالما رأيت ضوء اسمه يلمع بين كلمات سطور تلك القراءات مؤكداً حضوره الاستثنائي.
لهذا سأكتب عنك أيها الشهيد الحي هذه الشذرات.. لكن قبل أن أكتب اعذرني على التقصير الذي ستلاحظه.. لأن ثمة رفاقاً وتلاميذ، وأقارب وشهوداً عاصروك أخطأوا مرتين مرة حينما ظنوا أنك خصم لا يجب أن يُسمع، ومرة ثانية حينما أخطأوا تقديرات استقراءاتك المبكرة التي سبقتهم بعقود ومع ذلك لا يزالون صامتين.. أولئك كانوا أجدر بذلك مني، وليت بعضهم اكتفوا بتعمد نسيانك، بل تمادوا إلى حد سرقة تاريخ نضالك.
المنبع الأول
ضمن مكونات التجربة
ودعونا نتخيّل بداية انبجاس النبع الأول في التكوين.
في يوم ربيعي من عام 1948 اصطدم ابن السنوات ال (7) بمشهد سيظل يلعب دوراً أساسياً في تصويب خياراته المتزنة نحو غاياته الكبيرة، وفي تحديد مساراته النضالية، ومواقفه الوطنية العظيمة.
كان المشهد وصول أبيه (سعيد أحمد طاهر) محمولاً بين سواعد رجال من القرية.
وفجأة امتلأت الدار بالزائرين رجالاً، ونساءً، وأطفالاً.
وجميع الزائرين يكرّرون ذات الأسئلة: كيف أُصبت؟.. كيف نجوت وأنت مصاب؟ ولماذا فشلت الثورة؟
كان منظر الجرح على إحدى ساقيه بليغاً جراء الإصابة بواحدة من شظايا قذائف جيش الإمام التي أحدثت فيه إعاقة بائنة في سيره لازمته حتى وفاته.
أمام الزهو الذي غمره بشجاعة أبيه الثائر ضد مملكة الظلم الإمامي انتابه الحزن جراء الإصابة التي طالت ساقه.
ومن طرفي (الحزن، والزهو) توازنت ذاته واستقامت روحه، فلا الزهو بسماعه لأهالي القرية وهم يرددون قصة شجاعة والده قاده للغرور، ولا الحزن بفقدانه لجزء من ساقه أودت به إلى دركات اليأس.
لقد أدرك أن أباه كان ضمن (المتدسترين) الذين التحقوا بثورة (17 فبراير 1948م) الدستورية... تلك الثورة التي لم تصمد حتى شهراً كاملاً إذ سقطت يوم 13 مارس 1948م أمام جيش الإمام والقبائل التي هاجمت معه صنعاء وجعلتها مدينة مفتوحة لاستباحة عكفه وأنصاره يعبثون فيها كيفما يشاؤون.
ذلك هو المنبع الأول الذي ارتشف منه (عبد القادر) جرعة التوق الأولى لأن يغدو ثائراً كأبيه المتجلجل اسمه فوق ألسنة أهالي قرية (الأجران) من عزلة (الأغابرة) التابعة لمديرية حيفان.
اللحاق بأبيه إلى عدن
لم يلبث (سعيد أحمد طاهر الأغبري) كثيراً في القرية رغم ساقه المصابة خشية أن يقع في أيدي عكف الإمام وأعوانه فانتقل إلى مدينة عدن كبقية الذين نجوا من الوقوع في الأسر.
كما أن إعجاب أهالي القرية بشجاعة والده الثائر الدستوري، وذكائه في مخادعة عيون وجنود وأعوان الإمام صارت مضرباً للأمثال تركت أثراً بالغاً في نفسيته جعلته يحن إلى اللحظة التي سيلتحق فيها بأبيه في عدن.
ولم ينقض وقت طويل حتى كان (عبد القادر) قد أقنع خالته زوجة أبيه علماً أن أمه سيدة من إحدى قرى الصلو تركها أبيه وهو في سن الطفولة بالسماح له بالسفر مع (طبَل القرية) إلى عدن.
وفي عدن أقام في حي الشيخ عثمان وألحقه أبوه بالمدرسة الأهلية لأن مدارس البريطانيين كانت موصدة في أوجه أبناء الفقراء والفلاحين ومحصورة بأبناء السلاطين والمشايخ والوجاهات وأعوانهم فأكمل الابتدائية والإعدادية ليلتحق بعدها مباشرة بكلية عدن وحصل منها على شهادة الثقافة العامة.
خلال الفترة التي أقام فيها بمدينة عدن، عقد الخمسينيات تكونت بقية المنابع التي شكّلت تجربته الثورية المبكرة، وانتضجت فيه السمات والصفات القيادية المتعددة.
عدن حاضنة كل اليمنيين من المناطق.. عمالاً وتجاراً.. طلاباً وأحراراً.. أحزاباً ونقابات ومسارح وفنوناً و آداباً، وثقافة، وأجناساً من جميع أنحاء العالم، وأخباراً تنقل من مصر حكايات وخطابات عبد الناصر.
النبوغ القيادي المبكّر
مع مطلع عام 1959م كانت قيادة حركة القوميين العرب في كل من بيروت والقاهرة قد استقطبت ستة من الطلاب اليمنيين وأوكلت إليهم مهمة تأسيس فرعين لها في كل من عدن وتعز.
وفي حين لم يتمكن (يحيى عبد الرحمن الإرياني، عبد الكريم الإرياني) العائدان من القاهرة من تأسيس خلايا سرية في تعز على نحو سريع استطاع الأربعة الآخرون فيصل عبد اللطيف الشعبي العائد من القاهرة، وسلطان أحمد عمر، وعبد الحافظ قائد، وعبد الملك إسماعيل العائدون من بيروت إلى عدن وبحذر من عيون جواسيس الاحتلال الإنجليزي استطاعوا الانتقاء الدقيق للعناصر الأولى التي كانت أكثر من غيرها مهيأة لتحمل كافة مترتبات النضال في ظروف العمل السري الشاق.
و بحسب المعلومات التاريخية مثّلت تلك العناصر طليعة العمل الحركي الوطني المنظم والنواة الأولى لحركة القوميين العرب في مدينة عدن نحو( علي أحمد السلامي، طه أحمد مقبل، سيف الضالعي، وعبدالقادر سعيد، وعبدالفتاح إسماعيل، وسعيد أحمد إسماعيل الجناحي، سالم زين محمد، عبد الرحمن محمد عمر، وعبدالقادر أمين، عبد الله الخاوي، علي عبد العليم، محمد سعيد مصعبي، أحمد صالح السلامي، محمد سعيد، عبد الرزاق شائف، محمد عبده علي، سالم ربيع علي، علي صالح عباد (مقبل)، محمد سليمان ناصر، أبوبكر شفيق، علي عبد الرزاق عولقي، علي فرج با عبيد،)(3)، وغيرهم.
كان عبد القادر سعيد من أولئك الذين ينطبق عليهم الوصف (أمة)، و(نسيج وحده) مخلصاً للأهداف الكبيرة التي مثّلت في وعيه الوقاد المنطلقات الأولى للتحرر من الاحتلال والاستبداد الملكي، وتجلّى إخلاصه في بروز قدراته القيادية الذاتية، وسرعة استلهام كل متطلبات صقل تلك القدرات من التثقيف الذاتي القائم على استقراء معطيات التاريخ اليمني، والعربي من ناحية، وفهم معطيات اللحظات التاريخية التي يعيشها واقع الوطن، وراهن العرب، ومتغيرات العالم من ناحية أخرى.
إن شاباً لم يتجاوز العشرين عاماً ويمتلك من مواهب السمات القيادية، والوعي الكافي، والنشاط الدؤوب وبتعبير آخر يمتلك نبوغاً قيادياً مبكّراً سيكون من الطبيعي أن يحجز له مكاناً في الصفوف القيادية الأولى للحركة.
أُسندت إليه مهمة الإشراف والتأسيس للخلايا السرية فجعل من بيته المتواضع في الشيخ عثمان مقراً سرياً يستقطب إليه من يرى أنه قد صار مؤهلاً للانتماء إلى الحركة، وهناك (في دكان الأغابرة بحي العمال بالقلوعة قاد أول خلية عمالية) (4) سرية أسسها، وخطر تأسيس تلك الخلية التي أسسها وأشرف على تربيتها وتثقيفها أنها كانت داخل أهم وأوسع قطاع عمالي حينها في عدن وهي (مصافي النفط) بحسب شهادة مناضل مخضرم (أطال الله في عمره) هو عبدالله مطلق صالح الحالمي حيث قال:
(وفي نوفمبر 59 أسّسنا حركة القوميين العرب التي تبنت خيار الكفاح المسلح فقد جاءنا المناضلون: علي السلامي وعلي ناصر محمد وآخرون وقالوا: إن جمال عبد الناصر يؤيد قيام تنظيم قومي واسع يسمى حركة القوميين العرب وكانت أول حلقة سياسية دخلناها ونحن ما نزال في مصافي عدن وكنا خمسة أشخاص مؤسسين وكانت القيادة والإشراف مناطة بعبد القادر سعيد.. كان يأتي إلينا بالأدبيات والكتب والمنشورات وبدأنا ننشر أفكار الحركة أنا وسيف الضالعي، وطه مقبل، وسالم زين، علي السلامي، وعبدالقادر سعيد، وعبدالقادر أمين)(5).
يتخرّج من كلية الثقافة بمدينة عدن ومن ثم يتجه إلى التدريس في إحدى مدارسها.
ومعلوم أن اليمن خلال فترة السنوات الثلاث من نهاية الخمسينيات حتى ليلة قيام تنظيم الضباط الأحرار باقتحام قصر البشائر بصنعاء والإطاحة بالإمام خاصة في مدينة تعز وعلى نحو أخص في مدينة عدن شهدت بروز تطورات جديدة على الواقع تمثّلت في تأسيس الحركات النقابية العمالية وتعدد الأحزاب والحركات السياسية التي كانت تأخذ في البداية طابع العمل السري قبل الإشهار عن وجودها وأنشطتها العلنية.
ومعلوم أيضاً أنه كان قد سبق ظهور تيار حركة القوميين العرب فرع الجنوب مع نهاية عام 1959 تأسيس خلايا(يسارية) سرية في تعز، وعدن عبر عبد الله باذيب الذي أسس لاحقاً منها حزب اتحاد الشعب الديمقراطي عام 1961م، وكذلك تأسيس كل من حزبي البعث العربي الاشتراكي عام 1956 في عدن، وعام 1959 في صنعاء، وفي عام 1958 تأسست الجبهة الوطنية ، وشهد العام 1960 تأسيس الفرع الثاني لحركة القوميين العرب في مدينة تعز وتشكلت أول قيادة لإقليم اليمن تتكون من (فيصل عبد اللطيف، علي أحمد السلامي، طه أحمد مقبل، سلطان أحمد عمر، سيف أحمد الضالعي، يحيى عبد الرحمن الإرياني، عبد الحافظ قائد)(6).
وبإشراف مباشر من هذه القيادة لا سيما بعد صياغة الحركة برنامجاً سياسياً واضحاً دقيقاً تمحورت أبرز أهدافه في إسقاط نظام الحكم الإمامي في شمال الوطن أولاً كيما تتخذ منه قاعدة لخوض حرب شعبية مسلحة لتحرير جنوب الوطن اليمني تالياً وإلى جانب البرنامج الفكري القومي التثقيفي الإلزامي ناهيك عن طبيعة التنوع الأيديولوجي السياسي الذي أشرت إليه من تنامي وتزايد الأحزاب المتعددة.. من كل تلك وغيرها من المعطيات التي ظلت تتوالى وتتغيّر على كافة مستويات تلك الفترة في اليمن والمنطقة والعالم جعلت الشهيد (عبد القادر سعيد) يتشدّد في مضاعفة مسألتي التكوين والتثقيف الذاتيين تكويناً من حيث التسلك بكل متطلبات صفات وسمات القائد، وتثقيفاً مضاعفاً يتجاوز ما يوكل إليه من واجبات التثقيف من أجل فهم طبيعة الظروف التاريخية المعاصرة وتحديد أدوات ووسائل التعاطي معها بأخلاق حضارية أولاً وقبل كل شيء فاستطاع بما يمتلك من تزاحم المهارات القيادية، واتساع حجم الكثافة الثقافية الواعية إفعال شخصيته الكاريزمية في قلوب وأذهان كل من يجلس أو يتعرف عليه أو يستمع إلى حديثه أو يخوض معه حواراً في أمر ما.
أكرر إنه من كل تلك السجايا الذاتية وغيرها صارت الرؤية أكثر وضوحاً أمام عينيه، وهو ما ظل يمكّنه من تحقيق إنجازات عملية متلاحقة في كل ما يُقدم إليه من مهام ابتداءً من تأسيس أول خلية سرية في مصافي النفط مروراً بتأسيس عشرات الخلايا السرية في مديريات التواهي، والشيخ عثمان والقاهرة والقلوعة وصولاً إلى المشاركة في تأسيس قيادة حركة القوميين العرب، وغيرها من التيارات السياسية التي سنأتي عليها في سياق هذه المقالة.
قيادة أول طلائع لدعم وحماية ثورة سبتمبر
ما أن سمعت الحركة مذياع صنعاء يعلن عن الإطاحة بحكم البدر وقيام ثورة حتى سارعت قيادة الحركة بتكليف عبد القادر سعيد ضمن عدد من قيادييها على قيادة أول الطلائع الثورية المنظمة لمساندة الثورة حد ما جاء في شهادة راشد محمد ثابت (في ثاني يوم من الثورة انتقلت عناصر القيادة من عدن إلى الشمال ومنهم علي أحمد السلامي وعبدالقادر سعيد وعبد الحافظ قايد، وسالم زين محمد وعبد الرحمن غالب وأعني بهؤلاء مجموعة القيادات الرئيسية التي انتقلت إلى الشمال ثم لحقهم فيصل عبداللطيف وقحطان الشعبي من القاهرة إلى صنعاء وتعين حينها قحطان مستشاراً للرئيس السلال لشؤون الجنوب بدرجة وزير، فبدأ قحطان مع القيادات الشمالية والجنوبية الرئيسية بالتهيئة للثورة في الجنوب ضد الاحتلال البريطاني)(7).
لم يلبث الشهيد عبد القادر سعيد وبقية مجموعة القيادة في تعز سوى اليوم الثاني للثورة فقد كانت المدينة ترتج من تلاطم الأمواج البشرية على جنباتها، وما أن التحمت قيادتا الحركة بعدن وتعز مع الحشود البشرية حتى تشكّلت أفواجاً وجماعات وتوّاً اتجهت صوب صنعاء الثورة بعضها التحقت مباشرة بجبهات القتال، والبعض منها تشكّلت داخل أول لواء عسكري هو لواء الثورة والبعض أسندت إليهم مهمات التعبئة الثورية للجماهير فكان في طليعة الذين أُسندت إليهم مثل هكذا مهام.
تأسيس مدارس ليلية للتوعية
كان الشهيد يدرك جيداً بحدس القائد، ووعي المفكر إن أول أخطر أعداء أية ثورة في التاريخ هي جهل الذين من أجلهم تقوم الثورات فاقترح أن تتأسس مدارس ليلية للتوعية ونشر المعرفة، وكان فيصل عبد اللطيف وقحطان الشعبي قد سارعا بالانتقال من القاهرة إلى الانضمام إلى أعضاء قيادة الحركة القومية من الجنوب والشمال الذين وصلوا صنعاء، وفي اجتماع عقد في عاصمة الثورة أقروا تأسيس تنظيم شعبي للقوى الوطنية مهمته دعم وحماية الثورة غير أن الظروف لم تك مناسبة لتأسيسه في صنعاء.
إن للتوقد الشامل الذي صار وعياً وحركة أعطى لحضوره في الوسط الثوري لوناً مائزاً وإيقاعاً متفرداً إلى الحد الذي وجد نفسه ملزماً بتأدية واجبات مزدوجة ثورية وحركية ثورية حيث كلّف بما يمتلك من قدرات الإقناع والتأثير والتثوير للقيام بواجب حشد الجماهير للدفع بها للحرس الوطني الجديد ومساندة جيش الثورة في جبهات المواجهات مع القِوى الملكية، وحركية في التحضير لتأسيس تنظيم شعبي للقوى الوطنية جاء في خبر نشرته صحيفة الجمهورية بعددها الرابع: (المؤتمر الشعبي يدعو للمشاركة.. تقوم لجنة التبرعات في المؤتمر الشعبي العام بحملة تبرعات واسعة لدعم ميزانية المؤتمر ليقوم برسالته العظيمة في نشر التوعية، والمعرفة والثقافة بين صفوف المواطنين بمختلف الوسائل، ومن ذلك افتتاح المدارس الليلية، وستفتح أول مدرسة قريباً،س فشارك المؤتمر بالتبرع لهذا العمل العظيم)(8).
يؤسّس أول حزب بعد ثورة سبتمبر
لم يكد يمر شهران على قيام الثورة حتى كان الشهيد قد أنهى التحضيرات لتأسيس أول حزب سياسي يمني بعد ثورة سبتمبر فلم ينته شهر نوفمبر من عام 1962م إلا وقد شهدت مدينة تعز تأسيس «تنظيم المؤتمر الشعبي العام للقوى الوطنية» ضم داخله مختلف الكيانات الوطنية التي لم تكن قد أشهرت عن تواجدها سياسياً، وضم كذلك الشرائح العمالية والشبابية والاجتماعية وانتُخب (سعيد الجناحي) رئيساً له والشهيد عبد القادر سعيد أميناً عاماً لأمانته العامة:
(تنظيم ضم فئات واسعة من القوى الوطنية المؤيدة للثورة أُسس بهدف حماية الثورة والدفاع عنها خاصة وأن قوى التآمر الملكية بدأت تكتل قواها لإجهاض الثورة والنظام الجمهوري، وكان لأعضاء حركة القوميين العرب وخاصة العناصر المثقفة دور بارز في تأسيس المؤتمر الشعبي وقيادته، وجد المؤتمر الشعبي تأييداً كبيراً من أبناء الشعب وحصل على إمكانات من التجار الوطنيين وفتحنا مقراً له فيما كانت تسمى «العقبة» في تعز.. وبسبب الخلاف العدائي الذي كان محتداً بين حزب البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب، والذي ساد في ظل الصراع السياسي بين الزعيم جمال عبد الناصر وحزب البعث)(9).. فقد أوعز البعثيون للرئيس السلال أن الحزب يمارس أعمالاً تغذّي الطائفية الأمر الذي حدا بالسلال إلى إغلاقه قبل أن يحول عليه عام كامل.
اتساع بريق إسم عبدالقادر
خلال الأعوام الثلاثة من عام 1963 وحتى نهاية عام 1965م أخذ اسم عبد القادر سعيد يكتسب بريقاً متزايداً في مختلف الفعاليات الوطنية الثورية دفع بمجلس قيادة الثورة إلى القيام بتعيينه سكرتيراً لصحيفة (الثورة) الرسمية اليومية مطلع العام 1963م.. واتسمت كتاباته لصحيفة الثورة بتحريض الوجدان الثوري والوطني في الوعي الشعبي(10) بهدف توسيع قاعدة جماهير الملتحقين بالثورة والدفاع عنها.
وخلال نفس العام تم تكليفه بمهام المسئول السياسي لتنظيم حركة القوميين العرب شمال اليمن 1963م.
وذهب عند تواجده بصنعاء خلال هذه الفترة إلى جانب عمله في صحيفة الثورة مع بقية قيادة حركة القوميين العرب يفكرون بفكرة تأسيس جبهة لتحرير الجنوب المحتل.
وفي إحدى جلساتهم في بيت عبد الحافظ قائد بصنعاء (11) اختمرت الفكرة على ضرورة الإسراع بتشكيل جبهة لتحرير الجنوب المحتل تم الدعوة إليها، وتحديد موعد إعلانها.
وقد يطول بنا المقام بشأن مشاركته في تأسيس الجبهة القومية لتحرير الجنوب المحتل نظراً لكثرة الأحداث وازدحام المواقف التي مرت بها الجبهة بسبب انعكاس العلاقات بين (عبد الناصر، والبعثيين) على كافة فعاليات الأنشطة التي كانت الجبهة القومية تتبناها أو تتخذها في سبيل تحقيق أهدافها.
ولطول هذا المقام والتشابكات التي اتسمت بها طبيعة الفترة منذ الإعلان عن تأسيس (جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل) أول مرة في 24 فبراير 1963م إلى أن أخذت اسمها النهائي (الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل) في 19 أغسطس من نفس العام إلى أن عقدت الجبهة أول مؤتمر عام لها في تعز (22 يونيو 1965) وما تلا ذلك من دمجها مع جبهة التحرير في 13 يناير 1966م وقاد الشهيد مبادرة رفض عملية الدمج تلك.
نظراً لسعة مقام الحديث حول الجبهة القومية لتلك الفترة سأركز فحسب على إسهاماته معها.
فأقول شارك (في اللقاءات والحوارات التي أفضت إلى تشكيل تنظيم (الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن) وتم اختياره عضواً في مجلسها التنفيذي (يعادل المكتب السياسي حالياً)، وأسندت إليه مهمة تمثيل الجبهة القومية في شمال اليمن.
وفي عام 1965 اختاره مركز القيادة في بيروت لعضوية القيادة المركزية لحركة القوميين العرب عن شمال اليمن 1965م.
وهذا المركز جعل كلاً من قيادة الحركة في الشمال والجبهة القومية تكلفانه بمسئول القيادة التنسيقية بينهما خصوصاً بعد أن أعلنت الجبهة القومية عن نفسها رسمياً في مؤتمرها الأول في 22 يونيو 65م بتعز حيث كلفته قيادتها بأن يكون المسئول الأول عن تنسيق المساعدات العسكرية والمالية لثورة 14 أكتوبر من الشمال فكان يشرف على جمع التبرعات، واستلام الأسلحة وتسليمها للمكلفين في جبهات الثورة في الجنوب بالتواصل معه، ولم تقف المهام المناطة به عند هذا الحد بل أُسندت مسئولية إدارة العلاقات السياسية مع الحكومة الشمالية الداعمة لسياسة الجبهة القومية، وعلاوة على ذلك كلفته الجبهة للتحدث باسمها مع سفراء الدول الأجنبية في الشمال.
هذا فيما يخص المهام السياسية التي كلّف بها من قبل كل من قيادة حركة القوميين العرب فرع الشمال وقيادة الجبهة القومية.
محاور سياسي فرض حضوره في المؤتمرات الجمهورية
وفيما يخص المهام الوطنية والثورية فهذا مجال واسع للحديث فيه.
اختاره مجلس قيادة الثورة في معظم المؤتمرات التي كانت تنعقد بين الجمهوريين والملكيين، ولعب دوراً كبيراً في طرح مسألتي الثورة والجمهورية على أنهما صارتا واقعاً يجب على الملكيين الاعتراف به أولاً وقبل كل شيء، وبسبب هذا الطرح فشل مؤتمر خمر1963م.
وفي مؤتمر الجند الذي انعقد لانتخاب واختيار الممثلين للوفد الجمهوري لحضور مؤتمر حرض تم الشهيد ضمن الذين انتخبوا لهذه المهمة، ومثلما لعب دوراً في طرح مسألتي الثورة والجمهورية في خمر كمسألتين لا تفاوض حولهما استطاع إقناع رئيس الوفد الجمهوري (القاضي الإرياني) بطرح خياري الثورة والجمهورية كخيارين لا تراجع عنهما في مؤتمر حرض الذي انعقد في 23 نوفمبر 1965، وهو ما أصر الملكيون على رفضه لينتهي المؤتمر قبل أن يكمل جلسات أعماله بالفشل بالنسبة للملكيين والانتصار بالنسبة للجمهوريين.
قيادة مبادرة رفض دمج القومية بالتحرير
سيلاحظ منذ بداية العام 1966 والأعوام التالية قيامه بعدد من المبادرات الوطنية والسياسية أفصحت في مضامينها عن حرصه الشديد على ضرورة أن تفضي كل مسارات وأحداث ثورتي سبتمبر وأكتوبر إلى تحقيق أهدافيهما المعلنة.
ففي مطلع العام 1966م قام الشهيد بقيادة فرع حركة القوميين العرب في الشمال بمبادرة رفض الدمج (رفضاً مطلقاً) داعياً إلى:
عودة القيادة العامة للجبهة القومية إلى الداخل ومواصلة معركة التحرير الوطني المسلحة بالاعتماد على جماهير العمال والفلاحين وكافة الفئات الوطنية والتقدمية في الساحة)(13)
وقام الشهيد بالتحضير للمؤتمر الذي عُقد في مدينة (جبلة اليمن الشمالي في حزيران 1966،.. وفيه قرر المؤتمر القبول بالبقاء في إطار جبهة التحرير مع توضيح رأيها في الأسس التي ينبغي القبول بها في هذا الإطار، وعلى رأسها رفض القبول بوجود السلاطين في العمل الوطني، وقد رفع هذا الموقف في تقرير أرسلته الجبهة إلى القيادة المصرية وإلى عبد الناصر) (14).
جبهة التحرير بسبب قيام بعض أعضاء قيادة الجبهة القومية بالتوقيع على بيان 13 يناير 1966م القاضي بدمج الجبهتين معاً دون موافقة بقية القياديين أو موافقة مجلسها التنفيذي وقيام وقد اتخذ المؤتمر قراراً بتجميد أعضاء المجلس التنفيذي الموقعين على بيان الدمج و(أبقت مقعدين لكل من قحطان الشعبي، وفيصل عبد اللطيف، وأرسلت رسالة إلى عبد الناصر تطالب بالإفراج عنهما، وانتخبت قيادة جديدة ضمت كلاً من: عبد الفتاح إسماعيل، أميناً عاماً وعضوية كل من محمود عشيش، وأحمد الشاعر، وعلي سالم البيض، ومحمد أحمد البييشي، وعلي عنتر، وفيصل العطاس، وعلي صالح عباد (مقبل) وسالمين، وسيف الضالعي ، ومحمد علي هيثم، وعبد الملك إسماعيل(15).
وسيُلاحظ هنا أن مؤتمر جبلة خرج بقرارات مضادة لموقف عبدالقادر سعيد وقيادة فرع الحركة في الشمال الرافض كلية للدمج غير أن القيادة الجديدة بعد تأكدها من تواطؤ موقف المخابرات المصرية لصالح جبهة التحرير خصوصاً عند استمرار حجز قحطان الشعبي لما يزيد عن سنة ونصف، وفيصل عبد اللطيف لثمانية أشهر لتعود لاحقاً لتتبنى الموقف الرافض الذي سبق أن أعلنته قيادة الحركة فرع الشمال والتي كان عبد القادر سعيد المسؤول السياسي لها.
إدراك مخطط 5 نوفمبر ورفضه
حينما كانت المعطيات تشير إلى وجود انقلاب قد يُنفذ ضد الرئيس السلال دعا عبد القادر سعيد قيادات حركة القوميين العرب إلى منزله في تعز والذي كان قد استقر فيه عقب زواجه في مدينة تعز وفي اللقاء بحسب شهادة الجناحي:
(عُقد اجتماع موسع للعناصر القيادية في الحركة في منزل الرفيق عبد الباقي محمد سعيد برئاسة الرفيق عبد القادر سعيد أحمد طاهر وحضره الرفيق الراحل يحيى عبد الرحمن الإرياني وآخرون.. في ذلك الاجتماع تم تدارس الوضع والخروج بموقف تجاه قيام حركة لإقصاء الرئيس عبد الله السلال وبعد تقييم الوضع حينها.. أدركنا أن كل الدلائل والمسوّغات تشير إلى حركة انقلابية تُدبّر ومن الصعوبة إيقافها.. رغم أننا توقعنا أن الوضع الذي سيخلف عهد السلال سوف يسير نحو تسوية بحماس، مما سيضعف النظام الجمهوري، وللحقيقة وضعت هذه المقارنة لعلمنا إن المرشح لخلافة المشير السلال.. القاضي عبدالرحمن الإرياني، وقلت: إن السلال قائد وطني يشكّل الضمانة لحماية الثورة والجمهورية وأن القاضي الإرياني سيعتمد على القوى التقليدية في السلطة وسيسعى إلى تسوية ستؤدي إلى ضرب القوى التقدمية ورغم وجهة نظري هذه إلا أني التزمت بالقرار الذي توصلنا إليه وفحواه: «أن يكون موقف أعضاء الحركة ومناصريها عدم المشاركة في الحركة المرتقبة حينها وعدم مجابهتها أو تأييدها، وبالنسبة لأعضاء الحركة من العسكريين عليهم إطاعة الأوامر وعدم تنفيذها بحماس.. بما يعني أن الموقف اتسم بالتحفّظ(14).
الرئيس الإرياني لا يُرد مطالبه
على إثر الاجتماع الذي اتخذته قيادة الحركة في منزل عبد القادر سعيد أبدى (الجناحي وجهة نظره) خارج ذلك الاجتماع فوصلت إلى السلطات التي قامت باعتقاله مع آخرين:
(تم اعتقالي الساعة الخامسة صباح يوم 5 نوفمبر 1967م حين داهم عدد من الضباط والعسكر من الشرطة وجهاز الأمن الوطني – وكان في بداية تأسيسه - ونُقلت إلى فيللا تابعة للأمن الوطني (مقر الحزب الاشتراكي اليمني حالياً وكانت قد تفيدت ثانية عقب حرب 94م) تقع بجانب منزل القاضي عبد الرحمن الإرياني، وبعد وقت قصير أضيف إليَّ كل من: محمد مطهر، وعبد الله مطهر، أخوان لعبد الغني مطهر - وبقية المعتقلين كانوا من المرتبطين بالمصريين أو من المؤيدين للرئيس السلال.. ونُقلت في اليوم الثاني إلى معسكر العرضي وفي اليوم الثالث أُطلق سراحي، لم توجه لي تهمة.. أو يُحقق معي وما علمته هو أن الرفيق عبد القادر سعيد اتصل بالقاضي الإرياني، رئيس المجلس الجمهوري.. وبتوجيه منه أطلق سراحي) (15).
دوره في المقاومة الشعبية لفك الحصار عن صنعاء
برز الشهيد عبد القادر سعيد كواحد من أبرز القياديين للمقاومة الشعبية التي تكونت من العمال والطلاب والفلاحين والتجار ومختلف الشرائح الاجتماعية والوطنية.
ونظراً لموقعه القيادي في قيادة حركة القوميين العرب، ومسئول العلاقات للجبهة القومية مع الحركة والحكومة اليمنية، والسفارات الأجنبية فقد وظّف كل تلك المراكز التي يشغرها في دعم حركة المقاومة الشعبية التي كان للجبهة القومية دور كبير في رفدها بالمقاومين والسلاح وغيرها من لوازم متطلبات دحر القوى الملكية التي بدورها كانت قد أعدت كل مقومات إسقاط الثورة والجمهورية ودخول صنعاء.
ولعب الشهيد من خلال نادي الشباب الثقافي الذي أسّسه في تعز1966م دوراً بارزاً تجلّى في حشد الشباب والطلاب المتطوع للالتحاق بصفوف المقاومة الشعبية التي استطاعت مع عناصر الجيش وتحديداً قوات المضلات والصاعقة والمدفعية فك الحصار ودحر جيوش الملكيين المدعومة يومها من السعودية والأردن وإيران، و (الطائرات الإسرائيلية التي استمرت بتزويد المرتزقة الأوروبيين عبر زعيمهم (جيم جونسون،) وقبل ذلك دعم الملكيين بالأسلحة لمدة سنتين) (17).
محطات ما بعد فك 1967
لقد تميّز الشهيد عبد القادر سعيد عن غيره من رموز الحركة الوطنية اليمنية في الشمال والجنوب بعد تحقيق الانتصار سواء على الاحتلال وتحقيق الاستقلال في الجنوب أو على الملكيين وتثبيت النظام الجمهوري أنه سلك مسلكاً يقوم على التعايش بين القوى الوطنية المختلفة، واتخاذ الحوارات الوطنية منهجاً حضارياً لتحقيق ذلك التعايش والقبول بالآخر ونبذ منطق العنف وتجلّت مواقفه بعد عام 1967 على النحو التالي:
1 - مبادراته للدولة الجديدة في الجنوب
عندما رأى احتدام الخلافات بين كل من الجبهة القومية وجبهة التحرير تقدم بمبادرة لحل الخلافات بينهما من منطلق أن الثورة المسلحة في الجنوب كانت من منظور وطني ملائمة للكفاح ضد الاستعمار، وغير ملائمة بين اليمنيين، معلناً رفضه لمنطق وفكرة الانقلابات، مقترحاً للجبهة القومية ضرورة التزامها بتحقيق المشاركة السياسية للأحزاب في عدن.
فلم ينحز عقب الاستقلال لطرف ضد طرف آخر سواء للجبهة القومية ضد فصائل العمل الوطني الأخرى في عدن أو ضد المواقف التي أخذت تتباين بين قيادة الجبهة نفسها، وهو ما أراد رفيق دربه في النضال (الشهيد عبد الفتاح إسماعيل التعبير عنه في القصيدة التي رثاه بها عقب استشهاده أن يوضحه حينما هزج يقول:
فَقَدْنَاك ... وَكُنْت تَحْمِل عَنَّا هُمُوْمْنا... كَشَمِ الْجِبَال... وَتُصَارِع بِعِلْمٍ ... بِفَنٍ ... تُعَانِي... تُعَذِّب... تُرْمَى... عَلَيْك قُيُودَا ثِقَالا ... وَرَغْم الْعَنَاء... عِشْت حَرّاً شَرِيْفَاً... وَكُنْت عُنُوْداً صَبُوْرَاً... تُوَاصِل مَسِيْرَة شَعْبِك... جَنُوْبِا... شِمَالاً... فَكَلَّت قُوَاك... لِكَثْرَة مَا قَد صَنَعْت... شَهِيْداً سَقَطْت... فَطُوبِي... طُوّبِي لِمَا قَد فَعَلَت.
2 - المشاركة في تأسيس الحزب الديمقراطي الثوري اليمني
على إثر هذه الأحداث التي أعطت مؤشرات لما ستكون عليه طبيعة مرحلة ما بعد أحداث مارس 68م في كل من الشطرين، وكذلك مؤشر الخلافات بين القيادة المركزية لحركة القوميين العرب في بيروت والتي نجم عنها قيام فرع اليمن بفك الارتباط التنظيمي اليمني من المركز، وحل فرعه في الشمال لا سيما و أن فرع الجنوب كان قد ذاب إلى جانب عدد من فصائل الحركة الوطنية الجنوبية داخل إطار الجبهة القومية قبل ذلك.
كل هذه المؤشرات وغيرها حدت بعبد القادر سعيد لأن يكون ضمن النخبة المهيأة لتأسيس إطار سياسي وطني جديد يضطلع بمهمة النضال من أجل بناء دولة ديمقراطية لكل اليمنيين، وهدف كبير يحتاج إلى إطار تنظيمي منظم يضطلع بمهمة تحقيق ذلك الهدف، ولأجل ذلك اجتمع قرابة 70 كادراً في 28يوليو 1968م بقرية حارات الأعبوس بمنزل الفقيد عبد الرحمن محمد عمر يمثّلون قيادة حركة القوميين العرب فرع الشمال، ونخبة من العسكريين والسياسيين والقيادات النقابية أبرزهم (سلطان أحمد عمر, جار الله عمر, عبد الحافظ قائد, عبد القادر سعيد, علي مثنى جبران, علي الآنسي, وعبد الرحمن أحمد عمر, والشهيد علي قاسم سيف, وعبد الرحمن غالب , وعبد الحميد حنيبر, عبد الرقيب الحربي ، عبد الوراث عبدالكريم، حمود ناجي سعيد، أحمد قاسم دماج، عبد الحفيظ بهران، مالك الارياني، ويحيى عبد الرحمن الإرياني ، وعلي مهدي الشنواح، أحمد أمين زيدان ، محمد ناصر العنسي) وعشرات آخرين، وفي المؤتمر أُنتخب سلطان أحمد عمر رئيساً للحزب، وعبد القادر مسؤولاً سياسياً ، وعبد الحافظ قائد مسئولاً تنظيمياً وشيئاً فشيئاً - حد تعبير فتحي أبو النصر - (انتشرت فروع هذا الحزب الواعد شمالاً وجنوباً حتى كان من الفصائل القليلة التي لها فروع خارج اليمن أيضاً من الطلاب والمغتربين الوطنيين، رغم ظروف العمل السري الرهيبة، وتأثير الدعاية السامة المعادية لليسار بالذات).
3 - الدعوة إلى قيام جبهة وطنية للنضال السياسي
على إثر الواقع الذي آلت إليه الأوضاع في البلاد بدأ الشهيد عبدالقادر سعيد يخوض حوارات فردية مع عدد من القيادات السياسية كقيادات البعثيين، والإخوان المسلمين وتحديداً مع أحد أبرز مؤسسيها (الشهيد عبده محمد المخلافي) حد ما كتبه الزميل أحمد عثمان (ولم أكن أتصوّر أن أجد بجانبه القائد الاشتراكي (عبد القادر سعيد) وعلى عكس السائد وقتها يبحثان معاً رغم اختلافهما في التوجه عن كيفية إنقاذ الوطن بعمل مشترك وإخراج العمل الحزبي من شرنقة التعصّب وآفة الإقصاء وثقافة إزاحة الآخر وتخوينه أو تكفيره، لقد كانا يبحثان معاً في جلساتهما في تعز ومدارسها ومقهى (الإبّي) الشهير كملتقى سياسي شعبي وزوايا شارع 26 سبتمبر عن صيغة للعمل المشترك بين القوى المتناحرة التي كانت تختصم على حساب الوطن ولصالح الاستبداد)(18).
لقد كانت دعوة الشهيد لقيام جبهة وطنية للنضال السياسي في اليمن تستند على رفض فكرة الكفاح المسلهح تحت أي مبرر كان وهذا الموقف هو ما حدا بالشهيد جار الله عمر يصرّح قبيل وفاته بسنوات قائلاً: أقول للتاريخ إن عبد القادر سعيد كان الرجل الأكثر نضجاً والأكثر تطوراً منا جميعاً.
3 - دوره الاقتصادي
حينما نبحث عن دوره في بناء أسس الدولة الجديدة سنجد أن أبرز دور لعبه هو المشاركة في تأسيس البنك المركزي اليمني، فمن عمله كموظف في لجنة الرقابة على النقد نهاية الستينيات إلى ترؤّسه فرع هيئة الرقابة على النقد بتعز، إلى تعيينه أول مدير عام للبنك المركزي اليمني فرع تعز.
4 - علاوة على ما سيق أسهم الشهيد بفاعلية في توحيد الحركة النقابية العمالية في اليمن وبِحثِ الأدباء والكتّاب في الشطرين على تأسيس اتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين مطلع السبعينيات.
أطرف مخبر أمني
حينما كان الشهيد مديراً للبنك المركزي اليمني بتعز كلّف حارس الخزانة بمراقبة كل تحركاته ومن يستقبل أو يزوره في البنك، ومن هم الموظفون الذين يختلي بهم أو يجتمع بهم باستمرار.
أدرك الشهيد ببديهته فكان يكلّف ذلك الحارس بالذهاب للتسوق اليومي وإيصاله إلى بيته، وبيت رفيق آخر، وللمخبر الأمني نفسه.
حينما تأكد له أن المخبر ليس لديه عائلة لم يعاتبه على أنه كان يستغله بأخذ ثُلث التسوق لعائلته بينما هي موجودة، وتعيش في إحدى جبال كوكبان، وإنما قال له: لماذا لا تأتي بأسرتك إلى تعز حتى تدرّس أبناءك فيها، ويتعلمون ويصبح لهم مستقبل.
تذرع الرجل أنه لا يمتلك سكن.. فساعده على توفير أرضية من أوقاف تعز، ومن ثم في بنائه، وذهب المخبر وأحضر زوجته وأطفاله إلى تعز حيث ألحقهم بالمدرسة.
وبمرور الأيام اكتشفت زوجة الرجل أنه يقوم برفع تقارير أمنية عنه فما كان منها إلا أن وبّخته وهزّأته على ردّه لصنيع الرجل معه بتلك الصورة.
استيقظت داخل الرجل مشاعره فما كان منه إلا أن اتجه إلى بيت عبدالقادر سعيد في وقت متأخر من الليل وحينما وصل واستقبله شرع يبكي ويعتذر ويسوق الحقيقة له، وسأله: لماذا إذاً يراقبونكم؟
فما كان منه إلا أن ردّ عليه: لأننا نريد من الناس أن يكونوا مثلما عملت معك.. نريدهم أن يُدخلوا أبناءهم المدارس، ويبنوا بيوتاً لهم، ويطوروا هذا البلد.
ومضت السنوات وتخرّج ابن ذلك الرجل من كلية التجارة وصار قبل بضعة سنوات مديراً للبنك المركزي فجاء والده لزيارته حيث كان يجلس فوق كرسي عبد القادر سعيد فقال لإبنه:
صحيح أن تجلس فوق هذا الكرسي غير أن هذا الكرسي ما يليقش (لا يليق) بغير عبد القادر.
وأطرف محاولة اغتيال
نظراً لاختلافه مع بعض قيادات الحزب الديمقراطي الثوري فيما يخص بعض المسائل بشأن رفضه لفكرة النضال الجبهوي المسلح وإصراره على رأيه «أوردت حكاية طريفة في مقالة كتبتها قبل سنوات ست جاء فيها:
(كُلّف شخص للقيام بمهمة تصفية عبد القادر سعيد.. وذهب ذلك الشخص مع آخر لتنفيذ المهمة.. فاستضافه عبدالقادر سعيد وأكرم وفادته.. وشهد مجلسه الذي ضمّ عدداً من المثقفين والأدباء والسياسيين وانتظر المكلّف بالمهمة إلى أن انتهت الجلسة حيث انبرى يصارح الشهيد بالحقيقة بعد أن رأى منه ما رأى من أخلاق وكرم وثقافة عالية ومقدرة في الإقناع ورؤية ثاقبة وعملية وممكنة في التعاطي مع الأحداث.. وكانت المفاجأة أن أعطاه المسدّس الذي حمله قصد تصفيته به، وحذره بالاحتراس وأخذ الحذر ممن يخططون لتصفيته من رفاقه في العمل السياسي.. فرد عليه:
(إذا كان هذا القرار قد اتخذ من قبل القيادة الجماعية للحزب فأنا أرحّب به).
رجل مثله لا ينبغي أن يعيش
في ضوء الشذرات المتناثرة فيما سبق، وفي ضوء معطيات الظروف التي شهدتها اليمن خصوصاً منذ تصالحت القِوى الملكية، والقِوى (العسقبلية) بروز ما يسمى بالقوة الجديدة (الجملكية) لاسيما وقد تحدّدت الوجهة وصارت الدولة تحت هيمنة وسيطرة الجارة السعودية، والتبعية للمعسكر الغربي كان لشخصية مثل الشهيد عبدالقادر سعيد بصرف النظر عن اتجاهه اليساري فليست الخطورة هنا بقدر ما تكمن الخطورة في ذاته هو نفسه.
شخصية هذا الإنسان محل إجماع وطني، وتلتقي في تكوينه الذاتي كل مفارقات التعايش بين مختلف التباينات السياسية، شخصية كهذه لا يجب أن تعيش ليس فقط من خصومه بل في بعض الأحيان حتى من رفاق دربه.
أما من خصومه خصوصاً الأجهزة الرسمية في الدولة فقد فرضت عليه الإقامة الجبرية لأكثر من مرة في تعز، وفي يونيو عام 1973 اعتقلته حكومة القاضي الحجري في صنعاء مع رفاق له من الحزب الديمقراطي، وتعرّض لمحاولات اغتيال متكررة.
في فترة عُدّت من أسوأ فترات اليمن الجمهوري كما يسميها البردوني لتمييزها عن العهد الإمامي.. فترة ملبّدة بالغيوم.. تحجب الرؤية عن الوجهة التي يُفترض أن يسير صوبها الوطن.
فترة شرعت القوى الجملكية بعد تصالح الجمهوريين، والملكيين تكشّر عن أنيابها في وجوه الدعاة لبناء يمن الثورة.. اليمن الجمهوري.
تصالح خلق اصطفافاً من نوع جديد بين أعداء الثورة، والجمهوريين القبائليين ضد أصحاب المصلحة الوطنية من الثورة.
اصطفاف حدّد ماهية وأشكال الأساليب التي يجب اتباعها في التخلّص من دعاة الثورة، والتغيير، وبناء اليمن الجديد.
توفرت لذلك الاصطفاف رغم (صغر حجمه) بالقياس إلى حجم حملة المشروع الثوري كل مقومات الانتصار.. خزينة الدولة، والوظيفة العامة، والجيش الجملكي تحت خدمة المتصالحين المصطفين.. ناهيك عن الراعي الأساسي للمتصالحين ودعمه اللوجستي.
كل تلك عوامل ساهمت في تنفيذ أساليبها المختلفة لتسوية الأرضية السياسية لخدمة وتنمية ذاتها، وتصفية كل من سيقف ضدها أو إزاحته من طريقها تارة بالقتل، وتارات أُخر بالنفي، بالسجن، بالإخفاء.. حتى صارت اليمن أشبه بأرض مهجورة.
كان المخطّط الذي أفصح عن سرهه لنا نحن هذا الجيل اللاحق يقوم على تصفية كل المشاريع الكبيرة نهائياً لا فرق بين يساري أو قومي ناصري، ليبرالي بدليل أن اغتيال محمد أحمد نعمان الليبرالي عام 1973م ينفي أن اليسار هو الذي يجب أن يُمنع من ممارسة أيديولوجيته، اغتيل لأنه كان صاحب مشروع دولة بامتياز، ومحل توافق وطني حتى مع وبين معارضيه.
ففي العام الذي تلاه صعقت الحركة الوطنية اليمنية في الشمال والجنوب باستشهاد أحد أبرز زعماء الحركة الوطنية اليمنية في العصر الحديث الشهيد عبد القادر سعيد طاهر الأغبري.
كيف رحل ابن 34 سنة بهذه السرعة؟
تحكي أسرته أن راعي أغنام نقله إلى البيت حيث وجده مرمياً خارج المدينة، فقامت بإسعافه تواً إلى مستشفى المعمداني بجبلة المعمداني، وبينما كان يرقد على سرير المستشفى جاءت رسمية بسرعة إسعافه للخارج، وحين كانت أسرته تنتظره في المطار وصلها الخبر بالعودة إلى تعز فقد رحل حبيب الثوار.. حبيب الشرفاء.. حبيب قادم اليمن.
وفي بيان له صدر عقب انتشار الخبر اتهم فيه الحزب الديمقراطي الثوري اليمني أحد عقداء المخابرات المركزية الأمريكية الذي كان يعمل طبيباً في المستشفى بأنه وراء وفاته بسحب جميع السوائل من جسمه.
ويم دُفن جثمانه بمدينة تعز خرجت جنازتان الأولى في تعز عبّرت عن حق بموقع الشهيد في نفوس الذين عرفونه أمام أقزام وأشباح الظلام.
ومن عظمة الجنازة احتارت السلطات أيكون جميع أولئك الذين حضروا الجنازة أعضاء في حزبه، كثيرون أكدوا لي أنهم سافروا من محافظات يمنية شمالية للمشاركة في تشييع جثمان الشهيد (كاشفين جباههم التي لا تنحني للمخبرين، في تحدٍّ ساطع انتصرت فيه جذوة الشرف وعزيمة الرفض للاستلاب) حد تعبير (فتحي أبو النصر)، ويُقال إن الذين لم يكونوا قد عرفوا أنهم ينتمون إلى حزبه عرفوا في ذلك اليوم، بل كان من غاب ذلك اليوم عن عمله حتى وإن لم يشارك في الجنازة يتهم بحضور الجنازة وقد يشتبه بانتمائه لحزب الشهيد مالم يأتِ ببرهان ساطع.
والجنازة الثانية في عدن.. جنازة رمزية مهيبة شهدت مشاركة شعبية واسعة شارك فيها جميع قيادات الدولة ورفاق درب الشهيد جابت عدداً من شوارع المدينة.
وأطلق الدكتور عبد العزيز المقالح للقصيدة حرية أن ترثيه فأنشدت:
(احترقْتَ لكيما تنيرَ، أضاءَ رحيلُكَ للقادمينَ معَ الفَجْرِ، ليتَكَ لم تحترقْ. كانَ صوتُكَ للقادمينَ دليلاً، وكانَ زئيرُكَ مقبرةً للوجوهِ الغريبةْ، يا فماً، ويداً، وحساماً فقدْناهُ في وحشةِ اللَّيلِ.. هذا زمانُ العيونِ المدمّاةِ حزناً، زمانُ الفجيعةِ والقهرِ والسَّفَرِ الدَّمَوِيِّ على النارِ نحوَ النهارِ الجديدِ، زمانُ الرَّحيلِ إلى الفَجْرِ عَبْرَ بحارِ الظلامِ الكئيبةْ.
كلَّما انطفأَتْ شعلةٌ في الطريقِ إلى غَدِنا، تتضاعفُ أحزانُنا، ويطولُ الطريقُ، يحاصرُنا اليأسُ؛ لكنَّنا فوقَ جِسْرِ الدموعِ سنمضي، ستمضي الجموعُ التي أثقلَتْها المخاوفُ والحزنُ، لنْ يتوقَّفَ زحفُ الرِّفاقِ إلى مدنِ الحُلْمِ.. كلُّ فتى سوفَ يحملُ إنجيلَهُ - دامياً - وصليبهْ.
.. المراجع والمصادر:
1 - لقب أطلقه الدكتور أبو بكر السقاف على عمر الجاوي في إحدى مقالاته عنه كناية عن خبرته وتجربته السياسية ومعرفته بأسرار التاريخ المعاصر لهذا البلد.
2 - على جسر الدموع سنمضي.. إصدارات الحزب الديمقراطي الثوري اليمني تخليداً لذكرى استشهاد عبد القادر سعيد.
3 - أوراق ندوة الثورة اليمنية “الجزء الخامس” تعز. النضال الوطني وتجسيد واحدية الثورة اليمنية: اتساع تأسيس حركة النضال الوطني أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات.. صحيفة 26 سبتمبر رقم العدد:1226
4 - الراحلون من أجل الفجر .. فيلم وثائقي أعدته الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وبثّه كل من: التلفزيون اللبناني وتلفزيون جمهورية اليمن الديمقراطية (تعليق سعيد الجناحي) وقراءة المذيع والفنان اللبناني جهاد الأطرش، إنتاج وإخراج سمير نمر. منشور على اليوتيوب.
5 - المناضل عبد الله مطلق.. الحركة الوطنية وُلدت موحّدة لقاء: محبوب اليوسفي.. ص الجمهورية.. الخميس 29 نوفمبر - تشرين الثاني 2007 http://www.algomhoriah.net/newsweekarticle.php?sid=51810
6 - أوراق ندوة الثورة اليمنية - مرجع سابق.
7 - المناضل الكبير راشد محمد ثابت ل«الجمهورية»: الاستعمار البريطاني أبقى الجنوب اليمني حبيس التخلّف الاقتصادي والاجتماعي (2-1) حاوره: أنور العامري.. الإثنين 14 أكتوبر - تشرين الأول 2013.
8 - صحيفة الجمهورية العدد (4) السنة الأولى 2جمادى الآخرة 1382ه - موافق 30 أكتوبر 1962م.
9 - صحيفة 26 سبتمبر العدد 1422 ص 16 نُقل بتصرف.
1 - كنت قد حصلت على عدد من كتاباته لصحيفة الثورة قبل عشرين عاماً غير أنها فقدت ضمن مكتبتي التي ضُرِبت أثناء أحداث الحصبة عام 2011م ، ويمكن للباحثين عن سيرة الشهيد عبد القادر سعيد الحصول على تلك المقالات من أرشيف صحيفة الثورة أو المركز الوطني للمعلومات.
11 - لماذا تسلّمت الجبهة القومية السلطة في الجنوب اليمني المحتل؟ ل“«محمد عباس ناجي الضالعي»؟.
12 - نفس المرجع السابق.
13 - نظرة في تطور المجتمع اليمني.. سلطان أحمد عمر.. ص 260 نُقل بتصرّف.
14 - اليمن الجنوبي: الحياة السياسية من الاستعمار إلى الوحدة.. دار الريس ط1 نُقل بتصرّف.
15 - مرجع سابق من حوار الجناحي مع صحيفة 26 سبتمبر عدد 1422.
-16 نفس المرجع السابق.
17 -Melman، Yossi (2008-10-17). “Our man in Sanaa: A Yemen president was once trainee rabbi”. Haaretz.اطّلع عليه بتاريخ October 20, 2008.
18 - القائد الوطني عبد القادر سعيد الأغبري .. أحمد عثمان مقالة منشورة في الجمهورية يوم 18 - 5 – 2013م.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.