كان الليل يجمع أغراضه متأهبا لترك المكان لأشعة الفجر حين تحركتُ بالسيارة خارجا من جزيرة أبوظبي، لا بأس من إطلالة سريعة إلى الساعة لتحديد السرعة حتى لا أصل إلى بدع زايد متأخرا ولا متقدما، كان الوقت الرابعة و44 دقيقة، من الضروري الوصول عند الساعة السابعة، يبدو الوقت كافيا . تركتُ منطقة مصفّح ورائي، ولاحت من بعيد لافتة كبيرة تشير إلى الطريق المؤدي إلى طريف والغويفات، هذا هو طريقي، غير أني سأغيّر الاتجاه نحو بدع زايد قبل بلوغ طريف . كنت أشعر في ذلك الليل بأن السيارة ليست في حاجة إلى قيادتي، إنها تعرف الطريق بامتياز، فقد قطعتُ هذه المسافة عشرات المرات خلال السنوات الخمس الماضية، حين جمعتُ روايات جديدة حول بنت الماجدي بن ظاهر لكتابي "سلمى جدة شعراء الإمارات"، وحين جمعتُ روايات كتابي حول الأشجار القديمة التي ارتبطت بأحداث اجتماعية وقصائد وأعراف أنثروبولوجية، والكتابان صدرا عن إدارة التراث المعنوي في أبوظبي، وحين جمعتُ مادة كتابي "شعراء من الغربية" الصادر عن أكاديمية الشعر . كانت الطريق قِطعاً متأخرة من الليل تتداخل بين الحين والآخر مع قُطعانٍ من الضباب، وذاكرتي مشغولة حينا بتفاصيل محتملة للرحلة، وحينا بسيرة حياة الشاعر سعيد بن عتيج الهاملي، الذي جمعتُ عنه معلومات جديدة ومهمة منذ سنوات على لسان الشاعر خلفان عبدالرحمن بن رمضان المنصوري في جوّ عظام بمحضر الثروانية بليوا . الطريق إلى بدع زايد جميل في مظهره وسلاسته، بعد آخر محطة بنزين يمكن للمسافر أن يجد فيها كل ما يحتاجه، خرجتُ من طريق طريف والغويفات نحو اليمين ثم صعدتُ الجسر متجها يسارا إلى بدع زايد، التي دخلتها وهي لا تزال تتهيأ للخروج من نومها، الوقت السادسة و45 دقيقة، أوقفتُ السيارة قريبا من بيت آل الكندي المرر، واتصلتُ بالشاعر والباحث علي نجل الشاعر الكبير أحمد مصبح الكندي، رفيقي في الرحلة إلى ديار سعيد بن عتيج الهاملي . أخبرني أنه في بيت محمد بن بليد، وطلب مني المجيء إلى البيت . كان الشاعر محمد بن بليد جالسا في حوش البيت وأمامه موقد كبير مملوءٌ جمراً وقطعاً صغيرة من الخشب، ومعه شخصان من رَبْعه لم يسبق لي أن تعرّفتُ إليهما، خاشمتُهما، وخاشمتُ بن بليد وأضفتُ قبلةً على كتفه لأسباب أربعة هي: السبب الأول هو أنه أكبر الجالسين سنّاً، والسبب الثاني أنه استقبلني في مرة سابقة بمحبّة كبيرة، وروى لي بعض شعره، والسبب الثالث هو أنه نجل الشاعر والراوي الكبير أحمد بن محمد بن مرشد بن سالم بن بليد المرر المولود سنة 1899 في غيط نخل اسمه دْسال يقع شمال ليوا، والسبب الرابع هو إعجابي بمحافظته على إيقاعات اللهجة البدوية العريقة . وقد التقيتُ بعدد قليل من العرب البدو في المنطقة الغربية في أبوظبي ممن تشعر وأنت تستمتع إليهم أنك تستمع إلى أجدادك الأوائل، وكم تمنيتُ لو أن الجهات المعنية بتوثيق التراث الشعبي في الدولة تسجّل لهم أشرطة صوتية وتحفظها بأسلوب علمي يحميها ويوفّرها للسينمائيين والمسرحيين والباحثين مستقبلاً، خاصة أن الأجيال الجديدة فقدت الإيقاعات الصوتية للهجة البدوية القديمة في ظل اندماجها في الحياة العصرية ومحمولاتها الطارئة على المكان . المهم، بعد حبّات التمر وفنجاني القهوة ثم الشاي، أنشد محمد بن بليد بعض شعره وروى بعض السوالف التي جمعت بينه وبين الشاعر عمير بن حيي الهاملي . ثم ودّعته متجها مع الأخ علي أحمد الكندي وابنه أحمد إلى بطانة ليوا، حيث غيط حوايا، المكان الذي عاش فيه الشاعر سعيد بن عتيج الهاملي طفولته، وتغنّى به في شعره . سألت الأخ علي، وأنا أجلس جنبه في سيارته، أين تقع منطقة حوايا بالنسبة لمدينة زايد؟ فقال: تقع حوايا جنوب بدع زايد مع بعض الميل إلى الشرق، وهي لا تنتمي إلى ليوا، بل إلى بطانة ليوا التي تتميز بكثبانها المنخفضة ومعابرها السهلة مقارنة بكثبان بطين ليوا حيث الكثبان العظيمة التي تحتاج إلى مهارات خاصة لعبورها بالسيارة، ويمكن من الناحية الجغرافية اعتبار هذه الكثبان العظيمة آخر امتدادات الربع الخالي شمالاً، فهي غير مفصولة عنه ويمكن قطع المسافة بينها وبينه في خمس ساعات بالسيارة . سألتُ الأخ عليّ: نحن مُتّجهان إلى حوايا، حيث بقايا نخيل ابن عتيج، هل من المنطق أن نجد بقايا نخيل ابن عتيج المتوفى سنة 1919؟، فقال: في ليوا توجد نخيل عمرها أكثر من مئة سنة، وقد كان عندي نخل في غيط فريحة بمحضر عتّاب بليوا عمره يقارب القرن، لكنّ الهرم أصابه ولم يعد ينتج كما كان في شبابه وكهولته . وفي حوايا سنجد بقايا نخيل ابن عتيج على شكل "خيس" . والخيس هو أغصان سعف قصير ينبت في أسفل ساق النخلة الميتة أو الهرِمة، لكنه لا يكبر ولا يُثمر . كنّا قد شرعنا في التوغّل في الرمال قريبا من المنطقة التي أقيم فيها مهرجان الظفرة لمزاينة الإبل واختتم في 29 ديسمبر/كانون الأول الماضي . لاحظتُ أسراباً كثيرة من الحمام البري تحط وتطير، ومنها المستغرقة في الرعي، ماذا عساه يأكل الحمام في هذه الرمال؟، انتبه الأخ عليّ إلى مراقبتي أسرابَ الحمام وقال: كانت آلاف الإبل التي شاركت في المهرجان تتغذى على الشعير، وأنت ترى الحمام يرعى على ما تساقط من الشعير نفسه . الصحراء شديدة البرودة ليلا، وها هي نسمات أول الصباح تعلن ذلك، ومن الأفضل غلق زجاج السيارة . البدو يضعون "الجلال" على ظهور الإبل ليحميها من البرد، والكلمة نفسها نستعملها نحن بدو الجزائر . الامتدادات الرملية وتموّجاتها تشعرك بالدخول إلى عالم جديد، كل شيء يظهر ثم يختفي، يختفي ثم يظهر، تماماً كما لو كنتَ تركب سفينة تمخر في بحر هائج، ها هي مجموعات من هجن السباقات تخضع للتضمير وعند أنوفها تتكثّف أنفاسها لفرط البرودة، وها هي على يميننا وعلى يسارنا تبدو عِزَبُ المواطنين وتختفي مع صعود السيارة إلى أعلى الكثبان ثم نزولها . قال لي الأخ عليّ: منذ تولي سمو الشيخ حمدان بن زايد آل نهيان مهامّ ممثل الحاكم في المنطقة الغربية ارتاح المواطنون الذي يرغبون في الحصول على عِزَبٍ، فازداد عدد العزب وانتشرت في مناطق لم تكن موجودة فيها . لا تزال حوايا بعيدة، كنّا على مسافة ليست بعيدة عن رملة الفلاحيّة وماء البديعة، وقبل بلوغ فندق التلال غيّرنا الاتجاه يمينا، لاحظتُ وجود لافتة كبيرة مكتوبة عليها عبارة "شارع المليون"، علمتُ في ما بعد أن إبلا بيعت بملايين الدراهم في هذا المكان فأطلق عليه هذا الاسم . نرتفع بين الحين والآخر وننزل مع ارتفاع السيارة ونزولها، وقد يكون الصعود حادّاً فتشعر أن السيارة ستنقلب على رأسها نحو الخلف، وقد يكون النزول أشبه بالارتماء في هاوية لكنّ تكنولوجيا السيارات درست كل هذه الأوضاع في الجبال والصحاري . مرة أخرى غيّرنا اتجاهنا يسارا نحو بطانة ليوا، ولو أننا أكملنا عبر الطريق نفسه لوصلنا إلى منطقة بجير التي تزوّد مدينة بدع زايد بمياه الشرب . كان الأخ عليّ يتعرّف إلى الاتجاهات والمسافات من خلال جهاز متصل بالأقمار الصناعية، قال لي: بقيت لنا مسافة 13 كيلومتراً ونصل إلى حوايا . أصبحت غابة الهِيِيما يسارنا، كنا نشاهد من بعيد قطعان المها والغزلان، وعلى الرمال خارج الغابة تظهر بوضوح آثار أقدام الغزلان وبعرها الذي يذكّر بقول امرئ القيس "ترى بعَر الآرام في عرصاتها وقيعانها كأنه حَب فلفل" . نحن في الأسبوع الأول من العام الجديد 2013 وقليلا ما ترى العين نبتا أخضر، أشجار الأرطاه لم تورق بعد، شجيرات رمرام قليلة جدا ومتباعدة، شجرة مرخ تبدو هناك على منحدر كثيب شبه عالٍ . دقائق قليلة ونطل على ديار سعيد بن عتيج الهاملي شاعر الظفرة الكبير، قال لي الآخ عليّ ونحن على مرتفع رملي شاهقٍ: أنظر هناك إلى الأسفل . . تلك هي حوايا، هل رأيتَ بقايا النخيل؟، هنا وُلد ابن عتيج وعاش طفولته .نزلنا من السيارة، التقطنا صوراً من علٍ، ثم نزلنا بالسيارة إلى حوايا . لا شيء في حوايا . . الرمل وجذوع نخل نائمة على الرمل، وبعضها يقف وقفته الأخيرة، وأشجار أرطاه قليلة، من الواضح أن المكان مهجور، يقع المكان في سفح ارتفاع رملي ثابت وشديد العلوّ . للرمل ثلاثة ألوان فاتنة ومدهشة في تمايزها هي الأبيض والأحمر والنيلي الأزرق . الصمت يهيمن على حوايا، يرتفع فيها جرنان "قرنان" صخريان تغطيهما رمال تميل إلى الزرقة، السماء زرقاء صافية . . لا وجود لابن عتيج في المكان سوى مخايل عن طفولته وحركته فوق الكثبان، من المؤكد أن البيت الذي وُلد فيه كان من العريش، وأي عريش يمكنه الصمود قرناً من الزمن . لا وجود لأي إشارات في الطريق تشير إلى ديار الشاعر ولا وجود لأي لافتة في حوايا تقول هنا وُلد شاعر الظفرة الكبير ابن عتيج وعاش حياته . كان ابن عتيج حين اشتد عوده ينقل الحضّار صيفا على إبله، تلك مهنته التي أشار إليها في شعره ومن خلالها عاش تجارب وجدانية عميقة، وتعرّف إلى نساء كثيرات أحبهن وتغنى بجمالهن وبأحزانه لفراقهنّ، وقُتِل في إحدى الغزوات وهو ابن 44 سنة، ويبدو أن ترحاله في الصحراء العريضة وترحاله في الحب سدّا دونه طريق الزواج فمات أعزبَ . وتقول الروايات إن شَعره كان شديد الطول إلى درجة أنه كان يتعصّب به . وكان لسانه ذلِقاً عذباً خبيراً في محادثة قلوب النساء فأحبته نساءٌ وأحب نساء، وتجلّت في شعره مظاهر الصحراء بنباتاتها وعاداتها ومياهها وأبراجها ودعاثيرها، ولا يزال كل ذلك لم يُدرس بعد . وقد ذكر داره حوايا قي قوله: عندي الْكمْ بنت الورايا شقراً على المدلاي محراق امحسرهْ قِدْمِ الشوايا كَن ارْقَبَتْها لَمْحْ برّاق امْقيّظه غرسةْ (حوايا) ماردْ ظليل ومثْلْ لفْلاق بالطبع، لا أثر لأقدام سعيد بن عتيج الهاملي على الرمل، فالرجل مات سنة ،1919 ولا أثر للمكان الذي كان فيه ينام ويلعب ويبكي، ولا أثر لثيابه وحمدانيته وعصاه، ولا أثر لموقد النار وبيت العريش وعظام ناقته المفضّلة، بل لا أثر لقبره فقد كان جو الصحراء الحار وانعدام المواصلات السريعة يفرضان دفن الميت في المكان الذي مات فيه . ويمكنك الآن أن تتخيل معي الصحراء بستاناً رملياً عظيماً مزروعاً بالقبور، ويمكنك أن تتوقّع معي استحالة العثور على قبر ابن عتيج، كما هي استحالة العثور على قبر الشاعر غصّاب في منطقة الحمرا في المنطقة الغربية في أبوظبي .