بينما ما ينبغي أن نضعه نصب أعيننا هو دستور1930 حتي نتفادي مصير ذلك الدستور البائس الذي جاء معبرا عن تسلط قوة سياسية واحدة وغير معبر عن توافق مختلف القوي الأخري. لقد جاء دستور1930 كرد فعل عكسي لدستور1923 الذي يعتبر أول دستور عرفته مصر بالمعني المفهوم للدساتير, وإن كان قد سبق بالطبع بعض الوثائق القانونية العامة التي رغم أنها لم ترق لمرتبة الدستور إلا أنها كانت جميعا وثائق منظمة للحياة السياسية في عصر لم يعرف الدساتير بمعناها الحديث. ولقد عرفت مصر القديمة وثيقة قانونية تعود الي العصر القديم تحمل مجموعة من المباديء التي تنظم حياة المجتمع مثل احترام الملكية الشخصية وعدم الاعتداء علي أملاك الغير او حياتهم, بل وقد أظهرت هذه الوثيقة المصرية القديمة التي يمكن اعتبارها أول دساتير العالم اهتماما سابقا لعصرها بالبيئة وبحياة الحيوان, فهي تنص مثلا علي عدم جواز الاعتداء علي النيل أو إيذاء الحيوان. علي أن الوثيقة الدستورية الأولي في تاريخنا الحديث تعود لعام1837 حين أصدر محمد علي ما يعرف باسم السياستنامة التي اعتبرت مثل الدستور هي الوثيقة القانونية الأم في ذلك العصر وبمقتضاها أنشأ الدواوين ونص علي اختصاصاتها وأسلوب عمل كل منها. أما في عام1866 فقد أصدر الخديو إسماعيل لائحة مجلس شوري النواب التي نظمت عمل أول برلمان عرفته مصر في نفس ذلك العام. علي أن أول وثيقة قانونية تصدر عن نواب الشعب وليس عن الحاكم كانت تلك التي أصدرها مجلس شوري النواب عام1882 وكانت تعتبر بمثابة لائحة أساسية للمجلس النيابي وقد صدق عليها الخديو توفيق وظلت مدة عام تقريبا هي دستور البلاد الي أن وقع الاحتلال البريطاني فأصدر الخديو نظاما جديدا في العام التالي. وما بين ذلك التاريخ وصدور أول دستور بالمعني الحديث في عهد الملك فؤاد فقد تتابعت الوثائق الدستورية المنظمة للحياة في مصر, فكانت القوانين النظامية واللوائح الأساسية التي عبرت في مجملها عن رغبة المجتمع في وضع قانون وثيقة دستورية تنظم حياة الناس وتخضع البلاد لقانون أساسي يرتضيه الجميع. وقد تحققت تلك الرغبة الشعبية حين أراد الملك فؤاد إضفاء صبغة الملكيات الأوروبية علي مصر بعد أن نجحت محاولاته مع الأستانة في تحويل مصر من سلطنة الي مملكة تضمن توريث نسله الحكم فكان دستور1923 الذي وصلت مواده لأول مرة إلي170 مادة تعرضت لتنظيم الدولة المصرية بسلطاتها المركزية وكذلك مجالس المديريات والمجالس البلدية, كما نصت علي الحقوق والحريات وحددت سلطات الملك وصلاحيات البرلمان والسلطة القضائية. فقد تعالت في ذلك الوقت ومنذ انتهاء الحرب العالمية الأولي الأصوات المطالبة بجلاء القوات البريطانية, وإعلان استقلال مصر التي لم تخرج عن كنف الدولة العثمانية كي تتحول إلي مستعمرة بريطانية, وقد كان الدستور هو معيار الاستقلال الذي ارتضاه ممثلو الشعب لتأكيد ذلك الاستقلال, وهكذا ارتبطت قضية الجلاء بإعلان الدستور. ولقد أثمرت الضغوط علي بريطانيا في صدور تصريح18 فبراير1922 الذي اعترفت فيه بريطانيا باستقلال المملكة المصرية, وهكذا التقت الإرادة الجماهيرية مع الإرادة الملكية في ضرورة وضع دستور يتفق مع الوضع الجديد للبلاد فشكلت الحكومة لجنة الثلاثين التي وضعت الدستور, ومع ذلك جاء الدستور معبرا عن التطلعات الشعبية ولم يستجب لرغبة الملك في فرض إرادته علي الحكومة فقام بالتصديق علي مشروع الدستور في3 أبريل1922 وصدر الدستور بعد ذلك بالأمر الملكي رقم42 لسنة1923 في19 أبريل من العام نفسه. إلا أن الأحداث توالت وبدأ الصراع بين الملك وحزب الوفد الذي تمسك بصلاحياته المنصوص عليها في الدستور فقام الملك عام1928 بإقالة حكومة مصطفي النحاس وحل البرلمان وتعطيل العمل بالدستور, لكن في أكتوبر من العام التالي قامت حكومة عدلي يكن باستصدار مرسوم ملكي بعودة العمل بالدستور مرة أخري, لكن انتهاكات الدستور استمرت من جانب الملك وأحزاب الأقلية المتحالفة معه, وفي عام1930 حصل حزب الوفد علي أغلبية ساحقة في البرلمان مما أغضب الملك فقام بتكليف إسماعيل صدقي بتشكيل الحكومة والذي قام بفض دورة انعقاد البرلمان فرد البرلمان بسحب الثقة من حكومته التي قامت بدورها بإلغاء الدستور وحل البرلمان ثم قامت الحكومة باستصدار مرسوم ملكي بدستور جديد هو دستور1930 الذي عرف باسم دستور صدقي باشا. وقد كان أهم ما ميز دستور1930 هو ما يخشي منه اليوم علي دستورنا الجديد, حيث جاء بعيدا تماما عن الآمال الشعبية في دستور يحقق طموحات المواطنين ويؤكد دستورية الدولة ويضع قواعد الممارسة الديمقراطية ويحفظ التوازن بالفصل بين السلطات, لقد جاء دستور1930 معبرا عن قوة سياسية واحدة وليس عن جماع القوي السياسية الفاعلة في المجتمع, فأي الدساتير الآن في انتظارنا, وماذا ستكون طبيعة دستور2012 ؟ هل سيكون من فصيل دستوري1923 و1954 اللذين عادة ما تعقد بينهما المقارنات؟ أم سيجيء من نوعية دستور1930 الذي كتبته الحكومة فتسمي باسم رئيس تلك الحكومة؟!