الثلاثاء 19 فبراير 2013 12:56 صباحاً يتجاهل عبد الناصر المودع، في مقاله المنشور في صحيفة الشرق الأوسط، والمعاد نشره في عدن الغد يوم أمس، القواعد القانونية والمباديء الراسخة في حق تقرير المصير للشعوب والمجتمعات، ويتجاهل بشكل صارخ الحراك السياسي والإجتماعي والثقافي الحاصل في الجنوب في ال19 عشر عاما الماضية. يورد المودع خمسة أسباب "تقريرية "؛ لا موضوعية، كتب عنها عنوان: " لهذه الأسباب الخمسة.. لا مجال لانفصال الجنوب". ويرى في سردها أن هذه الأسباب ناجعة لعدم قدرة الجنوب على حق تقرير مصيره. نظر الكاتب إلى الأسباب التي أوردها على أنها كافية في بقاء الوحدة. عادة الكاتب اليمني، وتحديدا الكاتب الشمالي، فيما يتعلق بالوحدة، يكتب ما يتساوق مع موقف الطرف الذي ينتمي له، سواء كان حزب أو سلطة،، يساعد على الضغط على الطرف الذي يعتقد أنه ضده، أو ضد مصالحه، ومن ثم يقدم براهين تتصل بطموحاته الخاصة، ووفق طموحات ورغبة الدافع، وليس موضوعية الحدث. مؤخرا ظهر كذلك إتجاه، أو أدوات جديدة ( بعد سقوط نظام علي صالح) في أوساط الكتاب من النخبة السياسية الموسمية، تتبع وسيلة الكتابة المنطقية في إيراد جملة من المبررات التي تخصص بشكل مدروس للتخفيف من آثار المطالب الجنوبية وآثارها السياسية على مركزية وقدرة صنعاء، في التحكم ببقية المناطق من مختلف أنحاء البلد، وتصوير هذه المطالب، وأهمها على الإطلاق المطلب الجنوبي في فك الإرتباط، وكأنها مستحيلة أو غير ممكنة منطقيا، وهذا النهج يقدم نفسه بعد أن فشلت و إنتهى زمن الاساليب والأدوات الأمنية التي كانت تنتهجها صنعاء وتلجأ لها، في فرض رؤيتها لشكل اليمن ومكانتهم، وسقف طموحاتهم. والحق أن كثير من المشكلات في البلد، كانت نتيجة للسياسات المتخلفة التي درج عليها النظام، خاصة منذ حرب صيف94، مرورا بالثورة السلمية الشعبية، وما يرافقها من الكتابات المتناغمة معها، ومن بينها مقالة المودع التي نحن بصددها، وإن جاءت متأخرة كثيرا عن سابقاتها. إن الخفة الجنونية في كتابة خمسة أسباب تقريرية، لا تتمتع بأي معقولية في منع الشعب الجنوبي من تقرير مصيره - منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أستقر النظام القانوني الدولي على حق تقرير المصير- وإحداث هذه الفوضى في مقال واحد، وبهدف التأكيد على أن الجنوب سيبقى على ما هو عليه، هو أمر ربما جربه الجنوبيون أثناء إحتلال بريطانيا للجنوب. العديد من الاسباب في المقال تدعونا إلى الضحك ( كالموقف الدولي)، فتلك أمور لن يعتمد عليها الجنوب في تقرير مصيره، فهناك دائما في الشعوب ما هو أقوى من الأسباب التي يذكرها المودع، وهي بتصوري كافية لأن تنقسم اليمن إلى عدة دول وليس دولتين فقط. دولة فاشلة في الشمال، ونظام سياسي يتربع عليه مجموعة من اصحاب السوابق والجرائم وتجار الحروب، وقادتها، وأحزاب شاركت قياداتها في فتاوي تكفيرية ضد شعب الجنوب، وثورة مسروقة من شعبها، ومشايخ يستنفذون موارد البلد ( القادمة من الجنوب بالذات)، ورئيس حكومة ثانوي في المعادلة كلها، من الأسباب الداخلية، التي تؤكد ان لا مشروع اصلا في صنعاء، والمنطقي الوحيد هو أن يفتش الناس عن خيارات أخرى من بينها فك الإرتباط عن مركز فاشل حتى لا يفشلوا معه. ليس هناك اساسا نظام سياسي محترم في صنعاء، يمثل دولة محترمة حتى يمكن للجنوبيين أن لا ينفصلوا عنه. ففي ذات السياق يلخص المودع، التجربة الجنوبية في الدولة المركزية بأنها حديثة العهد (30 نوفمبر 67)، ويصمها بأنها هشة، وبمنتهى الخفة يواصل التقليل من أهميتها، وكأن هذه التجربة، والتي لم يشهد الشمال لها مثيل، في دولة مركزية أو أي شكل من الأطر السياسية، هي المطلب الجنوبي ذاته التي ردده الجنوبيون تحت مسمى : " إستعادة الدولة" أي الدولة التي قلل منها المودع. من الدوافع الجنوبية لفك الإرتباط، عدم قدرة الشمال على التشكل في دولة، فهو مجتمع قبيلة في شمال شماله، على وجه الدقة، وممانع للدولة بثقافته العصبوية في تلك المناطق. وبقية المناطق في شمال اليمن كانت تتبع قسرا سلطة ( وليس دولة) مركزية قبلية حاكمة، فصنعاء لم تكن دولة في أي يوم في تاريخها.. هذه الأسباب والدوافع التي أجبرت الجنوبيين لعدم المواصلة مع الشمال بعد إن اكتشفوا مبكرا كل هذا عقب الوحدة. بمعنى آخر هناك فوارق ثقافية بين الجنوب والشمال، فقد كان بإمكان الجنوب أن يواصل دولته المركزية الحديثة العهد، ولكنه ضحى بها وأنخرط بأمل كبير مع شمال لا يستجيب حتى هذه اللحظة لفكرة الدولة، على عكس المجتمع الجنوبي، وهذه من الأسباب الثقافية الواضحة، والتي تؤكد على الفارق بين الجنوب والشمال ثقافي في الأساس، فالجنوب ثقافة الفرد فيه تحتمي بالدولة وينسجم معها ذهنه السياسي، وعلى عكس الشمال، وتحديدا شمال الشمال، فالذهنية هناك قبلية، لا تقبل فكرة الدولة بل تشن عليها الحروب وتعتبرها العدو الأول لوجودها الإجتماعي والسياسي، وهي تتمسك بثقافة القبلية ولا تطمح للدولة. يدافع عنها المودع بالإساءة إلى فترة الدولة في الجنوب، والتي لم يعرفها هو ذاته، لا في الشمال ولا في الجنوب. إن هناك فوارق ثقافية، فالدولة ثقافة، ايا كان عمرها (مع عدم إتفاقي كذلك على ما قاله المودع من أن الجنوب كان قبل الدولة سلطنات... فالسلطنات كانت تتمتع بشكل من الحكم المدني المتقدم وخاصة الحضرمية منها) ناهيك أن عدن ذاتها كحاضرة مدنية عرفت النظام والقانون الإنجليزي، وكانت ملهم لكل الجنوب في الإحتذاء بها كنموذج حضاري ومدني متقدم. وعلى عكس الشمال، الذي كل ما فعله , ابداع في تدمير هذا النموذج، وتراث الدولة، في العقل السياسي والإجتماعي الجنوبي طول الفترة السابقة. في النقطة الثالثة يشير المودع إلى أن هناك قوى جنوبية مع الوحدة، وصحيح الأمر، بل أن هناك قوى سياسية وإجتماعية في الشمال، وخاصة في منطقة تعز، مع فك الإرتباط الجنوبي - الشمالي، وتتفهم المطالب الجنوبية، فهي قد عانت طوال أكثر من 1000 عام من الإقصاء والتهميش والدونية التاريخية، على مر هذه العصور، إحساسها العالي بالظلم الذي حدث للجنوبيين، وخاصة أنها كانت مساهمة في جرهم إلى الوحدة، وتطمينهم أنها الخلاص للجميع، اثبتت فشلها، وكل ما حدث أن أضيف الجنوب إلى التبعية للنظام القبلي والعشائري والعسكري الذي رزحت تحت حكمه وتحكمه منطقة عظيمة كتعز طوال تأريخها لألف عام ماضية. إن وجود فوارق ثقافية وإجتماعية لمسناها منذ اللحظة الأولى، وقامت بعدها قوات الشمال بعد حرب صيف 94 بتغيير معالمها وأشكالها في الجنوب لتتماشى مع ثقافة الشمال، ومن ثم ظهور الحركة الجنوبية الرافضة والممانعة لتصفية موروثها ومخزونها الثقافي، وتمكسها به ، من الشواهد العملية المؤكدة على الفوارق الثقافية، وتتجلى بشكل واضح في المظاهرات الجنوبية التي تطالب بفك الإرتباط، فلولا إحساس الجنوب بالفوارق الثقافية ، كالدولة والنظام التي أشرت لها سابقا، ناهيك عن الفوارق الأنثروبولجية والسيكلوجية، ما خرجت مليونيات جنوبية مؤيدة لفك الإرتباط. في النقطة الرابعة يشير الكاتب إلى هناك تشابك وترابط بين الجنوب والشمال، ولا ادري من أنكر هذا، فالتشابك والترابط كان منذ ما قبل الوحدة، وهذا التشابك والترابط الإجتماعي، سيستمر بين مناطق شمالية وجنوبية بعينها، هو الذي شكل حضارة مدينة عدن عبر تاريخها وأعطاها هذا التميز، بل على العكس أوجدت عدن للمناطق الشمالية كالحجرية (مثلا) متنفسا للهروب من إضطهاد صنعاء التاريخي لهذه المناطق، وبالتالي المصلحة الإجتماعية لهذه المناطق في ظل تهميشها المستمر بحليف ودولة في الجنوب يمكنها أن تستقوي بها على قبيلة تتحكم بكل شيء في صنعاء. بل على العكس، فالمجتمعات المنفصلة، تحافظ على نوع من التداخل مع المجتمعات التي تربطها بها قواسم مشتركة، وهذا ما يشير لها المفكرالهندي وحائز جائزة نوبل أمارتيا صن، في كتابه الهويات والعنف: " مرة أخرى أفترض أن العديد من المجتمعات تحافظ على نوع من التداخل من اجل فوائد ومزايا متبادلة، إن حدود العدالة ستظل تتسع مع مدى رؤية الناس، وقوة علاقتهم المتبادلة". هذا ما يقوله الكاتب الهندي الكبير، من واقع تجربة الهند مع باكستان وبنجلاديش، وبالتالي المناطق التي تبادلت مع الجنوب العلاقات الإجتماعية، وتشترك معه في قواسم ثقافية مشتركة سيزداد التواصل فيما بينها ويتعزز، ولا يوجد مبرر للخوف من المنتمين إلى اصول شمالية، واصبحوا جنوبيين بالشراكة الإجتماعية وبالتعايش والهجرة إلى مناطق جنوبية، وخاصة تشارك نتائج حرب صيف 94 بكل نتائجها والتي لم تستثني أحدا في عدن وفق أصله، لا يوجد أي مبرر لمخاوفهم فمصيرهم قائم على ما سيتأسس من تواصل وتشارك في تحقيق الأهداف والقضايا المشتركة. والروابط الإجتماعية والسياسية الحالية. التواصل الموجود من العوامل الضامنة لهم جميعا على إقتسام المستقبل أيا كان شكله. لسوء الحظ أن المقالة والاسباب التي اوردها المودع، تصادر أيضا، حق الشعوب جميعا وليس فقط الجنوب، فالشعب الفلسطيني أيضا العامل الدولي، لم يكن في صالحه في يوم من الأيام، وأعمال الجبهة الشعبية، هي التي أوجدت شيء اسمه القضية الفلسطينية، على سبيل المثال، عندما نتحدث عن الموقف الدولي، فالموقف الدولي متغير، وليس ثابت، وقد نشهد تحركا لهذا الموقف، كالذي شهدناه في لحظة فارقة مؤيداً للثورة الشعبية، ومتخليا عن نظام صالح، وبالتالي قد يكون في أي لحظة داعما أيضا للجنوب في تقرير مصيره. يظل الجنوب مهيأ لكل ما شكك المودع به في مقاله، وفي قدرة الجنوبيين على تحقيقه. على العكس العوامل تتهيأ مع الزمن، وإستمرار وتصاعد المطالب الجنوبية، سيعني موضوعيا، أن يبدأ الجنوبيين بالخطوات الناقصة، كما أود أن أشير فقط، إلى أن تعدد الحركات الجنوبية وتنوع أشكالها وقياداتها وإختلاف رؤيتها في فك الإرتباط، هي خلافات تكتيكية وليست خلافات مبدئية بين المتعددين فيها، وهذا الأمر لا يمكن لكاتب كالمودع أن يتجاهله، ويصوره وكأنه سبب حقيقي سيمنع فك الإرتباط، هو ليس كذلك، بل مشهد طبيعي لحركة تاريخية شهدها الجنوب في تعدد الحركات التحررية منذ حركة التحرير من الإنجليز.