الدراسة الصادرة مؤخراً، عن فريق من الباحثين العلميين في معهد كارولينسكا السويدي، عن العلاقة بين الإبداع والجنون، لا تضيف جديداً لحيوية نسيج الجنون، ولا تفتح آفاقاً أبعد لتفاصيل الإبداع . فالعلاقة المعنية موجودة ومكشوفة للباحثين منذ عهود طويلة . ولعل وجودها وتكشفها مرتبطان بنشأة الإنسان نفسه، على الأرض . أي أن الإبداع والجنون جوهران فطريان متماهيان في حياة البشر . إلا أن الدراسة جاءت لتؤكد بالعلم، على هذه العلاقة، وكأنها رأت في الإبداع مرضاً يخضع مثل غيره من الأمراض النفسية، للبحث والمعالجة . بطريقة إنسانية موغلة في القدم، جرى تكريس العبقرية على أنها جنون، وأن العباقرة مجانين . ويجوز تمديد القياس في السياق، على أن الجنون عبقرية، والمجانين عباقرة . ولا تختلف الشعوب كثيراً في هذا الشأن، عبر أساطيرها المتشابهة أو المتطابقة أحياناً . ومنها "وادي عبقر" في الأسطورة العربية . "أنت عبقري، يعني أنك مرتبط بوادي عبقر، أو ناتج عنه"، وهو واد سحيق يقع في نجد، يسكنه شعراء الجن، حيث كان لكل شاعر من شعراء الجاهلية قرين منهم يلقنه الشعر . ولم تغفل الأسطورة عن أن تذكر لنا بعض أسمائهم، مثل "لافظ بن لاحظ" صاحب أمرؤ القيس، و"هادر بن ماهر" صاحب النابغة الذبياني، إلخ . والمحصلة، أن من يكتب الشعر بجهده وتعبه ومخيلته الواسعة، ليس هو الشاعر الذي نعرفه ونستمع إليه، بل قرينه الجني الذي لا نراه أبداً . أي أن الشاعر، وهو الأعلى قامة إبداعية في العصر العربي القديم، على أساس ما كان من أن "الشعر ديوان العرب"، مجرد رجل مجنون . ولكن هذا "المجنون" بالذات، هو العاقل تماماً . ولعله الأنضج والأوفى عقلاً، بالنسبة للعقلاء العاديين . وهو بالضرورة من عناه المتنبي بقوله "ذو العقل يشقى بالنعيم بعقله، وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم" . إن المجنون المريض بالتالي، وفق هذه الرؤية الإبداعية المجنحة، هو الجاهل الذي لا يدرك معنى الإبداع ولا يفهمه . الجهل هو المرض، هو الجنون بمعناه الطبي، وبما يحتاجه للعلاج . وجنون هذا المجنون نعيمه . وعلى شاكلته قالت العرب "المجانين في نعيم"، في الوقت الذي لم تتردد بالقول فيه أيضاً، بلسانها الشعبي "خذوا الحكمة من أفواه المجانين"، تأسيساً على ما سمته في بعض إرثها المصنف "عقلاء المجانين"، وربما هو في آن "مجانين العقلاء" . أما إذا ارتفع الجنون إلى مستوى يكون فيه، هو ذاته مجنوناً، على حال ما قيل أن الإمام الشافعي واجهه مع رجل أغرقه بالأسئلة المعقدة، فقال فيه "جنونك مجنون، ولست بواجد طبيباً يداوي من جنونِ جنونٍ" فإن المسألة رغم حيرة الإمام فيها، تأخذ تفسيرها الصحيح بالإبداع . فلا بد أن هذا السائل المكثر من الأسئلة، مبدع متجاوز في تدفقه، لكثير من المبدعين المجانين، حتى صار جنونه مجنوناً، أو إبداعه مبدعاً . مع ذلك، لا تعترف الأبحاث العلمية الحديثة بهذا "الجنوح الشديد"، حسب معاييرها، في الشرح . فجميع أولئك الأشخاص الذين يشتغلون بمهن تتطلب قدراً من الإبداع، "يصابون بأمراض عقلية أكثر من عامة الناس"، وهو ما فصّلته الدراسة السويدية الأخيرة، فذكرت أن "الاضطراب ثنائي القطبية، والانفصام والاكتئاب ومتلازمة القلق" أمراض تنتشر بين الفنانين والعلماء والمؤلفين والباحثين" . وعلى وقع هذا التفصيل، يمكن لنا أن نتابع عناوين شتى لكتب متوافرة لمن يطلبها، أو ضمن مواقع إلكترونية تكاد لا تحصى، مثل: "الجنون في الأدب الحديث"، و"الكتابة والجنون"، و"الجنون في ضوء الفن الحديث والأدب والفكر"، و"ثقافة الجنون"، و"التحليل النفسي للأدب" . والقائمة تطول، غير أنها تختصر ذاتها بذاتها، بقولنا السائر إن "الجنون فنون"، من دون أن يتمكن هذا القول في آن، من امتلاك الحد الأدنى من العمق أو الشجاعة على الوصول إلى معاني الإبداع . والواقع فيه، أنه لم ينشأ أصلاً، لمثل هذا الوصول، وإنما كان إلى عكسه .