"لقد قتلوني ولكن هل يستطيعون أن يقتلوا حقيقتي، أن يشوهوا سمعتي"؟ (سقراط) في بحر الأسبوعين الماضيين فقط، وقعت أربعة أحداث استفزازية مؤسفة ومقصودة، هزّت الأوساط الثقافية والسياسية والشعبية، التي ارتكبت في حق الثقافة والفكر التنويري والحقوقي العربي عموماً، والمصري والسوري والتونسي خصوصاً . فالأولى، عندما قام البعض من المحتجين المصريين(لا نعرف انتماءاتهم)، بوضع "نقاب" على رأس تمثال كوكب الشرق أم كلثوم، في مدينة "المنصورة" . والثانية، حين فَقَدَ تمثال الشاعر أبو العلاء المعري في مدينة إدلب السورية رأسه، إذ قطعه متشددون من "جبهة النصرة" الإسلامية، بعدما أعلنوه "زنديقاً"، أو "ظنوه من أجداد الرئيس السوري بشار الأسد" . وذلك بعد أن رشقوا جسده بالرصاص، ومحوا اسمه من اللوحة . الثالثة، عندما اقتلع "الظلاميون"، التمثال الرأسي لعميد الأدب العربي طه حسين، من فوق قاعدته الهرمية، بمدينة "المنيا" القريبة من مسقط رأسه . والرابعة، حين قام مجهولون بتخريب تمثال تذكاري، للمحامي والمعارض اليساري المغتال مؤخراً في تونس شكري بلعيد، واقتلع المعتدون التمثال وخربوه وهشموه إلى ثلاثة أجزاء، وداسوا بأقدامهم الورود التي وضعت حوله . كما مزقوا صوراً لبلعيد، كانت موضوعة في المكان نفسه . هذا في الوقت الذي تواردت فيه الأخبار، على أن الجيش يؤمن ضريح بلعيد، منذ أنباء عن اعتزام سلفيين نبش القبر وإخراج الجثمان، بدعوى أن بلعيد "كافر وملحد" ولا يجوز دفنه في مقابر المسلمين . 1 أمام هذه الوقائع المؤسفة، التي يمكن وصفها بمذبحة التماثيل، يمكنني أن أسجل ملاحظتين أساسيتين، تثيران السؤال وتبعثان الشك والحَيْرة فعلاً، ألا وهما: أولاً، تقارب مواعيد الاعتداء على هذه التماثيل - الرموز، إذْ لم تتجاوز المدة، بين اعتداء وآخر، سوى بضعة أيام، وفي فترة لا تتجاوز الأسبوعين ربّما . وكأن هناك تنسيقاً ما، أو أمراً خفياً ما قد صدر من جهة غير معلومة، بالقيام بهذه الأفعال الهمجية والإرهابية، من أجل إثارة البلبلة والفوضى وزيادة الاحتقان والعداوات، في كل من مصر وسورياوتونس . ولعل السؤال المثير والمحير حقاً، هو ما الذي دفع مثلاً، بجماعة "النصرة" المتشدِّدة، والمنضوية تحت تشكيلات الجيش الحر في سوريا، وهي في خضم المواجهات الدامية والمجازر والقصف والتشريد والدمار والخراب مع القوات النظامية؛ أن تهتم لهذه الدرجة الكبيرة بقطع رأس تمثال شاعر وفيلسوف مثل المعري، وأن تمطره بوابل من زخات الرصاص أيضاً؟ فما الذي دفعها لارتكاب ذلك؟ وما حاجتها أساساً، لعمل بربري وحشي أنقص من رصيدها كثيراً، وجعل هالات الشك والخوف تدور حولها، في نفوس الشعب السوري؟ ثم ما علاقة شعر المعري وفكره، وهو الذي أخلص في خدمة الحقيقة ومهاجمة الفساد والضلالات وظلّ رهين المحبسين طوال حياته، بالنظام الأسدي وبالحرب الدائرة على الأرض، في الأصل، لكي يتم الانتقام منه بهذه الطريقة البشعة؟ أم أن طيف المعري، قد تحوَّل إلى شبِّيح يحارب ضدّ جماعة النصرة، من دون أن نعلم؟ شيء غير مفهوم ولا منطقي في الحقيقة، ولا تبدو أسبابه واضحة، إلاّ إذا كان هناك وَرَاء الأكَمَةِ مَا وَرَاءهَا! 2 لعل الأغرب من ذلك، وفي السياق نفسه، هو أن هذه الأحداث لم يمضِ على وقوعها وقت طويل، منذ أن نادى وتوعد على قناة "دريم" الخاصة"، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2012 الماضي بالتحديد، القيادي بالدعوة السلفية الجهادية في مصر، مرجان سالم الجوهري، "بتحطيم تمثال أبو الهول، والأهرامات، وجميع التماثيل التي تمتلئ بها مصر" . والجوهري هذا، هو من اعترف في اللقاء نفسه، بأنه شارك حركة "طالبان"، في حادثة التفجير الشهيرة لتمثال بوذا في منطقة "باميان" في أفغانستان . والغريب في الأمر، بأن لا أحد قام باعتقال الجوهري هذا، لا بسبب مشاركته الإرهابية في التفجير فحسب، بل لا حتّى عن تهديده بنسف الآثار المصرية علناً؟! هذا فيما يشار، إلى أن شيخاً سلفياً آخر، هو الداعية محمد حسان، قد دعا في وقت سابق، إلى طمس "وجوه التماثيل وتغطيتها بالشمع" . فهل أوفت السلفية الجهادية بوعدها إذاً، وأعطت شارة البدء لجمعاتها في الدول الثلاث بالقيام بما قاموا به؟ خاصة أن أصابع الاتهام في تلك الأحداث، تشير إلى الجماعة السلفية المتشدّدة نفسها! وهل ما حدث، يعني بأنها زخة المطر الأسود الأولى، وأن هناك زخات مطر أخرى ستتبعها؟ 3 ثانياً، إن رؤوس التماثيل تلك التي أطيح بها، التي تمّ تغطيتها أو قطعها أو سرقتها أو تهشيمها؛ كانت كلها بمثابة رموز تاريخية ووطنية في الثقافة العربية، تمثل الجانب النقيض والمناهض للفكر الأصولي والسلفي الظلامي، سواء في الفن أو الأدب أو الشِّعر والفلسفة أو النضال السياسي الحقوقي . وإذا ما استثنينا حادثة الشهيد شكري بلعيد وتمثاله، بوصفها اغتيالاً سياسياً محضاً تم قبل أيام معدودات، ويندرج في الصراع الدائر في تونس بين الأحزاب اليسارية التنويرية، وحزب النهضة السلفي الحاكم الآن . فإن بقية الرموز تلك، تكون قد قَدِمَت من فضاءات التاريخ القديم أو المعاصر القريب، وتم الزج بها زوراً وبهتاناً، في الحدث الحار، اليومي والآني، والمرتبط بالحدث السياسي المتفجِّر والمضطرب، في البلدان الثلاثة: مصر، سوريا، وتونس . ولكن هذا الزج ذاته، ولننتبه لذلك، لم يكن من أجل الاحتفال بها أو إحياء تراثها مثلاً؛ وإنما من أجل الانتقام منها وقتلها من جديد . إنها الرغبة الدفينة والمتأججة في مستنقع النَفْس الحقود، من أجل إبطال قيمة تلك الرموز وتشويهها ومحوها من الوجود، من خلال ممارسة العنف عليها وإعدامها . إنه نوع من التمثيل الرمزي، بجثة ميت شبع موتاً أو لم يبرد دمه بعد، وها هو يُقدم بوصفه "قُربان ثأر" وانتقام، في معركة لا يُستثنى منها لا الأحياء ولا الأموات . إنها نوع من "تضحية استغفارية"، يقوم بها القتلة ليبرروا فعل قتلهم لصور الأموات . إذْ ليس يخفى على أحد، كما يعبر ريجيس دوبريه، "أن تحطيم الصورة يشبه عملية قتل" . أي بمعنىً آخر، قتل صاحب الصورة أو إماتته مرتين . بل الأكثر من هذا، وفي حالة شكري بلعيد هنا، هو أن قتلته لم يكتفوا بقتله وتحطيم تمثاله، وإنما أرادوا كذلك نبش جثمانه وإخراجه من مقابر المسلمين، بعدما كفروه وأخرجوه من ملَّة الإسلام، فقط، لأنه كان يعارضهم ويختلف معهم سلمياً . ولكن، لنسأل هنا ونترك السؤال مفتوحاً: ما حكم الإسلام، في حرمة وقداسة الميت؟ وما حكمه، في مَنْ يقتلون الميت مرتين؟ 4 إن تماثيل الشعراء والكتّاب والفلاسفة وغيرهم، عندما تتواجد في فضاء المدن، فهي لا تتواجد كأصنام تعبد كي يتم تحطيمها وقطع رؤوسها، وإنّما هي تتواجد جمالياً وفنياً وكنوع من التكريم الحضاري والتقدير، لصور أشخاص أغنوا التراث الإنساني، وأصبحوا علامات تاريخية وثروة وطنية وقومية يفتخر بها العالم . إن الصحابي عمرو بن العاص مثلاً، عندما دخل مصر، فإنه لم يقم بتحطِيم تمثالٍ واحدٍ أو نصبٍ أو معمارٍ هندسيٍّ كالأهراماتِ مطلقاً؛ لأنه كان يعلم بأن تحطيم التماثيل مرتبط فقط بعبادتها، ولم يجد في مصر كلها من يعبد التماثيل ويتخذها آلهة له . والآن، قولوا لي: مَنْ منكم، سمع بأن هناك مَنْ اتخذ من تمثال أم كلثوم، أو تمثال المعري، أو طه حسين، أو شكري بلعيد، أو المتنبي، أو السياب، أو أي شخصية أخرى، كأربابٍ تقدم لهم النذور ويصلّى لهم؟ وإذا كان الجواب: لا أحد، أبداً،! فإذن، كل الدعاوى والتبريرات التي تذهب عكس هذا الاتجاه، يتوجب فضحها وكشفها والتوكيد على الفعل الإجرامي، لكل مَن قام بهذه الأفعال الحمقاء واللاإنسانية . 5 إنها حرب جديدة إذاً، وتكتيك جديد، يتم فيها استخدام الأموات من أجل ضرب الأحياء، وتدويل العنف مادياً ورمزياً وعلى نطاق واسع، وخلق الفوضى والاضطراب، وتطهير الفضاء العمومي والمدني من رموز التنوير، التي تشعرهم بدونيتهم وجهلهم وضآلتهم . إنها حرب من أجل التجريد، والإخراس، وسحب الاستحقاق عن تلك الرموز، وجعل الفضاء العام عارياً مما كرسته جماليات اليسار والحداثة والتنوير . إذْ لم تعد حرب الشوارع والصراع على السلطة، بالنسبة لهم، تعني المصادمات والمواجهات والمظاهرات فحسب، بل أصبحت تعني -وفي تحوّل جديد - هو كيفية إزالة أو إخفاء الرموز الثقافية والتاريخية التي يتمسك بها خصومهم، من الحقل البصري للشعب تدريجياً . وهذا ما يفسر سبب اعتداءاتهم المتكررة، طوال عقود سابقة، على الأحياء من الرموز الثقافية والفكرية والإعلامية وغيرها، وعلى تماثيل الأموات اليوم . ولكن، يموت المبدع وتبقى جذوة إرثه باقية حيّة، حتّى ولو حطّموا تمثاله أو ظله!