استقالة وزير مالية رام الله "نبيل قسيس" ألقت الضوء على عمق الأزمة والشكوك المتبادلة بين ديوان الرئيس عباس ومكتب رئيس وزارته في رام الله "سلام فياض" وأثارت الكثير من التداعيات وتصاعد المنافكات بينهما.. أعضاء مركزية " فتح " وعلى خلفية هذا التصعيد سارعوا إلى عقد اجتماع مع عباس فور عودته من الأردن وأخبروه بضرورة ثني "الوزير قسيس" عن الاستقالة وأنهم ينوون تقديم استقالات جماعية للضغط على فياض في حال لم تتم تسوية هذه القضية؛ إلا أن عباس رفض موقفهم. النائبان عن حركة "فتح" جمال أبو الرُّب ونجاة أبو بكر اتهما فياض بالتعجرف والتعالي على الرئيس وبأن تعاطيه – أي فياض - مع الأزمة برمتها كان غير مقبول وغبر مبرر، وأضاف أبو الرُّب: "نحن في "فتح" طالبنا الرئيس عباس صراحة بمعاقبة فياض بسبب تجاوزه للأعراف الدبلوماسية. وأقول: بداية لا بد من توضيح أن وزير المالية بأصل دوره ووظيفته يراقب ويتحكم في حركة الأموال الداخلة للسلطة والخارجة منها، وهو ما لم يرق لسلام فياض الذي كان يمارس عليه التكبيل ويخلق أمامه العقبات ويتجاهل صلاحياته ويعتدي على صلاحياته ويبرمج المدراء العامين بوزارة المالية الذين يدينون له بالولاء – أي لفياض - في هذا الاتجاه، وإنما كان يهدف إلى إيصاله للاستقالة من أجل أن يعود إليه ملف المالية الذي كان معه قبله والذي لم يتخل عنه إلا بعد ضغوط كبيرة وشديدة من حركة "فتح" التي كانت تتهمه دائما بأنه يبتزها ماليًّا. الأصل أن استقالة وزير مالية أو حربية لم تكن لتثير كل هذه الخلافات والتراشقات الإعلامية بين فريقين يفترض أنهما متحالفان لأكثر من سبب وخشية أكثر من نتيجة.. ولكن واضح أن "سلام فياض" لم يعد ذلك الموظف أو الواجهة المعني بمجاملة حركة فتح أو بالتنازل لها، وواضح أيضا في مقابل ذلك أن حركة فتح بدأت تستشعر الاستهداف من هذا الرجل ومن فوقه الاحتلال فصارت هي أيضا لا تفرط بالقليل الذي قد يغري بالكثير. والحقيقة أن صراعا مستحكما بين ميزانين وفريقين بدأ يتطاير شرره خارج الكواليس؛ أحد هذين الفريقين هو حركة فتح ليست قيادتها الرسمية ولكن قواعدها الثورية والشعبية وما تبقى لها من أجندة وطنية يعتقدون أنهم من أضفى على السلطة الشرعية والوطنية وأنها بالتالي يجب أن تظل ملك أيمانهم وتحت أيديهم.. الفريق الآخر هو الاحتلال الذي يريد أن يضرب ضربته الأخير لفتح وللشعب الفلسطيني بتجيير السلطة له على التمام والكمال لتساعده على خيار تقطيع الزمن وتهويد المزيد دون منغصات أو اشتراطات. العدو يرى أن على السلطة أن تتأجند في خياراته، ويرى أن الوقت قد حان للدخول في هذه المرحلة؛ يشجعه على ذلك متغيران اثنان قد طرآ لصالحه منذ فترة؛ أحدهما طرأ على فتح، والآخر طرأ السلطة؛ أما على فتح فنزولها عما كانت تمثله يوم منحها المميزات من شرعية وتأثير وقدرة على تسويق الالتزامات والانحشارات التي يلجئها إليها.. وأما على السلطة فوصولها إلى المرحلة الثالثة والأخيرة التي "طبخها على نار هادئة" ويرى أنها هيأت له أن يستعيدها وأن يتخلى عن أية التزامات تجاهها. أما متغير حركة فتح فخلاصته ثلاثة تحولات ونقائص أصابت الحركة؛ هي 1- فقدانها ما كسبت به شرعيتها في سنوات الأوج من ثورة ووطنية وشخصيات ومواقف ذات ثقل معنوي وخصوصا بعد رحيل عرفات – يرحمه الله تعالى – وما كان يمثله من شخصية محورية وقدرته الاستثنائية على لملمة الحالة الفلسطينية في كل الظروف خلال الخمسين سنة الأخيرة هي كل عمر الحركة حتى الآن 2- أن الذين يقودون الحركة اليوم لم يكونوا مؤهلين لقيادة بهذا الحجم وبهذه الظروف والتبعات ولا مؤهلين لمواجهة احتلال هو أبشع احتلال إحلالي تصفوي عنصري عرفه التاريخ، ومؤهلين لحماية ميراث حركة مترهلة مريضة من تسرقات أعوان الاحتلال داخلها وداخل التوليفة الإدارية المختارة منها للسلطة 3- أن حركة فتح لم تعد تمتلك التفوق العام على الحركات والمنظمات الفلسطينية في ظل وجود حماس والجهاد وفي ظل تغير مفهوم الثورة إلى أكثر من حمل بندقية وتسجيل المواقف، وفي ظل وجود السلطة وتنافساتها وإزاحاتها والعجز عن السيطرة عليها، وفي ظل الانقسام بين شقي الوطن.. العدو يرى هذا المتغير ويرى من ورائه أنه لم يعد يراهن على خدمات فتح فضلا عن أن يلتزم أمامها بشيء. المتغير الثاني المتعلق بالسلطة؛ هو أنها مرت وبالتوازي مع متغيرات فتح بمرحلتين من قبل وهذه الثالثة من بعد وهي التي نحن بصددها والتي من علاماتها الصراع الذي يحتدم اليوم بين السلطة "المحشّدة والمدعّمة" وفتح "المسنفرة والمخضّعة" المرحلتان السابقتان هما 1- مرحلة تنصيب السلطة تحت فتح لإكسابها الشرعية الثورية والوطنية التي لن تقوم ولن تقبل بدونها فيما هي تقوم بما كانت تقوم به روابط القرى وأعوان الاحتلال 2- مرحلة تخفيض قيمة وقدرة قيادة فتح بإزاحة عرفات وتنصيب الورثة الذين أشرنا لضعفهم وسهولة هزيمتهم ثم ومن خلالهم تعظيم السلطة وتخفيض فتح.. 3- أما المرحلة الثالثة فتتمثل في إخراج السلطة من عباءة فتح وإبقاء هذه الأخيرة مجرد – سكراب قطع غيار - حوالي السلطة لدعمها حين اللزوم من ناحية ولضمان سلميتها معها من ناحية ثانية.. هذه هي المرحلة هي التي كانت في ذهن العدو وطالما حذرت منها حماس والمثقفون الفلسطينيون. هنا وفي هذه المرحلة الثالثة للسلطة والثالثة الموازية لها في حركة فتح يأتي دور "سلام فياض" وتسليمه مقاليد السلطة بعجرها وبجرها وأبيضها وأسودها.. "سلام فياض" هذا؛ ميزته – بالنسبة للاحتلال - أنه لا حزب له بالمعنى الحقيقي فمن السهل جعل السلطة حزبه، وأنه لا أجندة مناقضة لديه فمن السهل ملؤه بأجندة الاحتلال، وأنه لا امتداد شعبيا له فمن السهل ابتزازه.. كل هذه الميزات لا تنطبق على فتحوي مهما تهرأ في هوى الاحتلال أو تقطع في خدمته. آخر القول: هل اكتشفت حركة فتح أنها دخلت مرحلة الاستبنة للسلطة؟ وهل تتنبه قبل ولات مندم أن العدو بدأ يحصد سنوات صناعة السلطة وحمايتها والإنفاق عليها.. لست في وارد التشكيك في غيرة أبناء فتح ولا في وارد زيادة متاعبها.. ولكني بالتأكيد أمتلك نصحا أسديه لها وتوقعا لما هو أسوأ أخافه عليها ورأيا في ضرورة المسارعة للتحرك وتصحيح المسار أقدمه لها.