أعلم أن محبي اللغة العربية سيغضبون من كلمة «تأرنت»، ولكن أستأذنهم في استخدامها لأني لم أجد كلمة مناسبة للتعبير عن حالة الربط التي تقوم بها شبكة «الإنترنت» بين البشر، وهناك كلمات نُحتت في اللغة وأصبحت منتشرة بعدما كانت مجهولة، فكلمة مثل «التمدرس» لم تكن مستخدمة إلى عهد قريب في أدبيات التربية إلا أنها شاعت في السنوات الأخيرة بسبب استخدامها للدلالة على الفترة الدراسية التي يقضيها الطالب في المدرسة، وعودة على مسألة «التأرنت» فقد أصبحت هذه الشبكة جزءا من حياتنا اليومية لا يمكن التخلص منه إلا بإرادة قوية أو بالعزلة عن هذا العالم، حتى صار مثير من الناس أسرى لشبكة الإنترنت، ينشط بنشاطها ويتعطل بتعطلها، فحادث بسيط يقع آلاف الأميال بعيدا عنا يستطيع أن يعطل وصول الأخبار إلينا أو يقلل من وصولها كما يستطيع أن يجعلنا «متسمرين» أمام الشاشات لفترة أطول حتى نستطيع أن نبعث برسالة إلكترونية أو نستقبلها أو ننسخ ورقة أو نستفسر عن معلومة، وأصبح سؤالنا الرئيس عند الحديث عن شبكة الإنترنت في أي مكان هو «ما هي سرعتها»، فقد ضاق بنا الوقت وأصبحنا نبحث عن الثانية قبل الدقيقة، وبالأمس القريب مرت أجزاء واسعة من العالم بأزمة «إنترنتية» بسبب حادث بسيط تأثرت به خدمة الإنترنت في عدد من بلدان العالم بسبب انقطاع كابل بحري رئيسي في البحر المتوسط هو الكابل «Smw4» الذي تعرض لقطع قرب مدينة الإسكندرية المصرية مما تسبب في إضعاف خدمة الإنترنت ونقلت وكالة رويترز عن أحد المسؤولين قوله «نتوقع إصلاح الكابل في الأسبوع الثالث من أبريل إلى الآن لا نعرف أسباب القطع!!». والكابل «أس أم دبليو 4» هو من أطول كابلات الاتصالات البحرية في العالم. ويبدأ الكابل الذي يزيد طوله عن 20 ألف كيلومتر من جنوبفرنسا مرورا بإيطاليا والجزائر وتونس ومصر والسعودية والإمارات والهند وباكستان وتايلاند وبنجلاديش وانتهاء بسنغافورة!!، أي إن ما يقرب من مليارين من البشر يستخدمون هذا الكابل، فهل وصلت البشرية قبل ذلك إلى هذا المستوى من «التشبيك»؟ فلو قيل لأحدنا قبل أعوام قريبة إنه سيصل إلى معلوماته وسيتحدث عبر «سلك» يضم هذا العدد من الناس لعدَّ ذلك ضربا من الجنون!، إن كثيرا من مستخدمي الشبكة قد أصبح «أسيرا» لها، فهو لا يستطيع أن يستغني عنها في حله وترحاله، فهي «محبوبته» عندما يريد أن يحجز في فندق أو شقة سكنية، وهي مطلوبة عندما يشتري جهاز هاتف أو تلفزيون أو غيره من الأجهزة الإلكترونية، وهي وسيلته لتوفير الوقت والمال والجهد، بل أصبح لهذه الشبكة مرض خاص يسمى اضطراب استعمال الإنترنت (Internet Use Disorder)، حيث من المتوقع أن يعاني منه ملايين البشر خلال السنوات القادمة، وتصنف للجمعية النفسية الأميركية هذا الاضطراب بأنه «هوس شديد بالإنترنت أو المحادثة عبر الإنترنت، وقد يواجه أصحابه أعراضا انسحابية كتلك التي يختبرها أي مدمن عندما لا يتوفر الإنترنت، ولا يحقق نفس المستوى من الإشباع، بالإضافة إلى فقدان الاهتمام بالنشاطات الأخرى، والمرور بمحاولات فاشلة للتوقف، واللجوء إلى الإنترنت لتحسين المزاج أو الهروب من الواقع»، ومع كل هذا لا يمكن للبشر أن يتخلوا عن هذا المنتج الذي غيّر كثيرا من أوجه الحياة، فشبكة الإنترنت اختصرت للإنسان وقته ووفرت له ماله ويسرت له الوصول إلى متطلبات الحياة حتى أصبح كثير من أبناء مرحلة الإنترنت يسألون من عاش قبل هذه المرحلة، كيف كنتم تعيشون بلا «إنترنت»؟ وهو سؤال يحق لهم أن يسألوه في عصر مليء بالحركة والمتغيرات التي أفقدت الإنسان جزءا من إنسانيته وحولته إلى آلة متحركة، فأحدنا الذي يشتكي من بطء شبكة الإنترنت وتأخر الوصول إلى المواقع لثوان معدودة يفقد ساعات من عمره في ازدحام الشوارع وصفوف الانتظار، والإنسان الذي يستطيع أن يصل إلى المعلومة بسرعة خاطفة لا يحتمل أن يقرأ صفحات محدودة من كتاب أو مقالة، فقد أصبحت الكلمات تُحسب بالعدد، والإنسان الذي يتجول عبر الشبكة في بلدان العالم قد لا يجد متسعا من وقته للجلوس مع عائلته أو لقضاء دقائق معدودة على شاطئ بحر أو ضفاف نهر أو يجلس لفترة قصيرة على مرتفع في الصحراء أو تحت شجرة ليعيد لنفسه طبيعتها «الطبيعية»، والإنسان الذي يحمل في جهازه مئات الأرقام لهواتف وعناوين إلكترونية متفرقة في العالم قد لا يجد متسعا ليزور أمه المريضة أو يؤدي واجب العزاء لصديق رحل، والإنسان الذي يوفر الأموال عبر استخدام الشبكة قد لا يُخرج من جيبه ريالا ليسعد به فقيرا، لقد أفقدتنا الحياة جزءا من إنسانيتنا، ثم ذهبنا نبحث عمن نلقي عليه باللائمة فما وجدنا غير شبكة الإنترنت «المسكينة» لنشتكي منها، ولو نطقت لاشتكت منا!! ستبقى هذه الشبكة بكل «فضائلها» علينا، بل ربما يكون القادم في عالم التكنولوجيا أفضل وأكثر خدمة لنا إن أحسنا توظيفه في حياتنا، وتحكمنا فيه قبل أن يتحكم فينا، واستخدمناه لخدمة البشرية وخيرها.