هل ماتت الكتابة؟ هو سؤال يمكن طرحه، بعد الأسئلة المشابهة الكثيرة التي طرحت من قبل، وفي مقدمها: موت المؤلف، موت التاريخ، موت الجغرافيا، موت الإيديولوجيا، موت الأدب، موت الفلسفة، وموت البطل، وغير ذلك من الميتات الكثيرة الافتراضية التي طرحت، أو تطرح، منذ عقود، وحتى هذه اللحظة، حيث باتت الصورة الإلكترونية تفرض سطوتها، وتسحب الثقة من النص المكتوب، تدريجياً، وهنا نحن أمام موت شامل أوسع من موت الأدب، وهي حقيقة، لابد من ملاحظتها، في ما لو تتبعنا الخط البياني المرتفع لمتابعة الصورة، أو الصورة المرفقة، المضغوطة، المكتوبة بمجرد مفردات معدودة، على غراربعض ضروب الكاريكاتيرالتي يستعين رساموه ببعض الشروحات التي غدت الآن غير مقبولة، نتيجة تطور هذا الفن، وميل المتلقي إلى مشاركة الفنان في قراءتها، وإن كانت إبداعات هذا الفن أكثر وضوحاً عادة . وإذا كانت فكرة موت المؤلف قد طرحها رولان بارت في العام ،1968 فإنه كان قد انطلق من فكرة مشاركة القارىء في كتابة النص من جهة، واستبعاد شخصية المؤلف أثناء قراءته، حيث يعد أحد منتجيه، بل قد يزداد دوره أكثر عبرت فاعله مع هذا النص، والإضافة عليه، من خلال منحه أبعاداً أخرى، كامتداد لسلسلة تناصات كثيرة، تشكل بؤرة النص، وجملة الدلالات التي يرمي إليها، بل وإن شكل هذا النص-نفسه- يمكن أن يخضع لهذه العمليات التناصية، فإن هناك من ذهب أبعد من تشريح مثل هذا الموت، الذي بات يعتمد في قراءات العديد من المدارس الجديدة، إلى الدرجة التي يعد فيها الحديث التقليدي عن حياة أي روائي، أو قاص، أوشاعر، أومسرحي، من نوافل النقد . لقد استطاع النص الأدبي، بأنواعه عامة، أن يؤدي وظيفة مزدوجة: جمالية ومعرفية، في آن معاً، وإن كانت هناك دعوات محددة، إلى لاوظيفيته، أو إلغاء إحدى هاتين الوظيفتين، وهي الجانب المعرفي، من خلال اعتباره أداة ترفيه، لا أكثر، حيث "الفن لأجل الفن"، وقد انضوت أصوات كثيرة تحت لواء هذه المدرسة، لاسيما في مجال التشكيل، بل إن عدوى أفكارها وصل إلى عوالم الشعر، والقص، والمسرح، من دون أن يعلم أعلام هذه المدرسة،آنذاك، أن دعواتهم هذه، على احتلاف نبرة ردود فعلها، إنما هي، في جوهرها، موقف فكري من جملة التحولات التي أعقبت الحرب العالمية، وما تبعها من دمار، وموت، ومجاعات، ومآس هائلة، وفظائع، لاحدود لها، ولم يكونوا، في الغالب، ليتخلصوا من هيمنة ماهوفكري، سواء على نصوصهم الإبداعية، الغارقة في التشاؤم، والسوداوية، والإحباط، أو على مساهات لوحاتهم بالنسبة إلى الرسامين، ومنهم أسماء جد كبيرة، كما أسماء الرادة المبدعين، الساردين، والشعراء، من دعاة هذه المدرسة . ومن ينظر في الشريط الزماني، على مدى ثلاثة العقود الأخيرة، على نحو خاص، ير أن هناك تحديات هائلة، تعرضت لها الكتابة، حيث الكاتب لم يعد ذلك النبوئي، الاستشرافي، ولم تعد رسالته محتفظة بهيبتها، ورهبتها، وأهميتها، كما أشيع ذلك، استناداً إلى استبيانات، وأرقام، وشهادات، وثقتها مراكز الدراسات، والورش، والباحثون المتخصصون في مثل هذه المجالات، وهو ما كان بمثابة نذير شؤم لدى الكتاب الذين، وجدوا أنفسهم في مواجهة سقوط إمبراطورياتهم، وسطواتهم، وما كان من كثيرين منهم إلا وأن راح ينافح عن الجنس الإبداعي الذي يكتبه، من خلال مواصلة رسالته، وهوماحدث في حقول السرد، على نحوواضح، حتى يثبت نجاعة خطابه، على غرارالسابق، بل منهم من راح يستفيد من إنجازات ثورة التكنولوجيا والمعلوماتية، من خلال استخدام وسيلتي التواصل مع متلقيه: التقليدية منها، وما بعد الحداثية معاً، ليكون الكتاب، بدفتيه، وورقه، ورائحة حبره، إلى جانب النشرالإلكتروني، كي يكتشف، أخيراً، أن هذا النمط النشري الجديد قادر على أن يوصل كتابه، إلى جمهرات جديدة، من القراء، ما كان الكتاب التقليدي، وبسبب آلة الرقابة الرهيبة، والحدود الجمركية، وظروف النشر أن يخترقها، إلا بشق الأنفس، كما يقال، بيد أن ما حققه، عبر كتابه التقليدي، هوالذي رسخه، وكرسه، مادام العالم الافتراضي، لم يستطع إلا لعب دور المساعد، ليظل النشر الإلكتروني ناقصاً، مالم يتوسل الورقية، وإن كان المدون الخبري، هو القادر على ترك بصماته، في دائرة متلقيه الواسعة، سعة آفاق اللغة التي يكتب بها . هل ماتت الكتابة؟ السؤال ذاته، الذي بدأناه، في استهلالة هذا المقال، بات مشروعاً، حقاً، طرحه، في غمرة هيمنة الصورة الإلكترونية، وإيقاع اللحظة الزمانية الذي بات يقدم، في كل برهة إشارات خبرية، تكاد لا تنتهي، تجسر بين المتلقي، ووسائل النشر والإعلام، من خلال الصورة التي تقطر الدماء، ورائحة البارود، والدمار، والخراب، إلى جانب غير ذلك من الأخبار السارة، أو الفنتازية، حيث يتلقاها أي متعولم، وهو في بيته، ومكتبه، أو حتى في مركبته، بيد أن هذه الوسائل التي وسعت فضاء المعنيين بالحدث الكوني، من الممكن أن تحفز القراءة أكثر، لا أن تمحقها، وتزيلها، ولعل الدليل الأكبر هنا، هو أن النسخ المطبوعة من أي كتاب ورقي، باتت تزداد من قبل دور النشر الكبرى، الجادة، وأن أرقام اقتناء الكتاب في معارض الكتب باتت ترتفع، عاماً بعد آخر، ناهيك عن أن النسخة الإلكترونية من الكتاب نفسه، تجد طريقها إلى قراء لم يكونوا في الحسبان من قبل .