عبد الناصر صالح يمسك بالسراب الجميل في ديوانه (مدائن الحضور والغياب) بقلم: فراس عبيد في جديده الجميل (مدائن الحضور والغياب) يكتب الشاعر الفلسطيني عبد الناصر صالح أجمل قصائده وأكملها، وهي: البدوي، المائي، حالات البحار العاشق، سلمت يمناك، صوتك هناك، لم يبتعد صوتك المشتهى، المدائن، معراج اللذة، وجه الغزالة.. ماس جدائلها، يزهو بقامته، طيور الفينيق. فكيف حضرت مدائن صالح في هذا الشعر الأبهى الذي خطته أنامل شاعر في أواخر عقده الخامس؟ المرأة ينبوع الحياة والشعر. مدائن صالح هي هذا الشعر الذي يرتفع بنا عن حدود الواقع والمرئي إلى نطاق الحلم والأعلى فالأعلى والمعقول في نطاق آخر خلاف نطاق عالمنا المألوف، وكأني بعبد الناصر يمارس تصوفه في اللغة عبر قنوات شعر ينبض رهافة وحياة وروحانية وشفافية، ما يجعل لغته متطورة وفارقة عن تجاربه الشعرية السابقة. في قصيدته (صوتي هناك) يلوذ عبد الناصر صالح بحقيقة الحياة منها، ويفر منها إليها، فما هي هذه الحقيقة، وإلى أين الملاذ؟ " ضاقت الغابات وانفرطت عقود العمر، وارتجت عروش الغابة الحمقاء لما استحكمت حلقاتها الأعوام قلتُ: تفيءُ فانفرجتْ أسارير المدينة عند منعطف الصباح، فمن يعدُّ هوادج الذكرى لتنفطر النساء على جموع الرغبة الدّهشاء في؟ أرقتُ صهبائي فلا عثرتْ يداي على القصيدة أو عثرتُ على ملامح صورتي في التيه، قاحلة حقول دمي فمن يسقي الهواء الشِّعر كي تخضرّ أوردتي؟ أتعبتكَ الحياة وأرَّقك المعنى يا عبد الناصر، وكأنك في محطة العمر الأخيرة تراجع ما كان لتمسك به، وأنّى لك ذلك، إذ تسكتشف أشعارُك أن ليست الحياة سوى سراب جميل، وإذ بات وعيك يترقب النهايات على أبواب لغةٍ جنحَتْ بك إلى رمزها المجهول الأول، الماوراء، حقيقة الحقيقة! فلم ينفعك تشبثك بالحياة، ولا بمصدرها العذب (المرأة)، فرحتَ تحصي نساءك عبثا، علك تراكم أمام ناظريك ما تسند به ظهرك البشريّ الذي ناء بأحمال الحياة، وعلك تُرمّم حقيقة العمر الهارب، وتنسى فاجعة أشواق الحياة التي لا تتحقق! لكنك ابن الحياة، فتصرّ على المقاومة ولو كنت تعرف النتيجة سلفا: " قلتُ: تفيءُ ..". وفي (معراج اللذة) تتألق المرأة حضورا ومعنى في حنايا قلب الشاعر وأعماق روحه، فيناديها ويستحضرها، لكنها أبدا لا تروي ظمئا فيه لها، ومنذ متى تروي الدنيا ظمأ أهلها؟! "أرى وجهها في مرايا الكلام أرى وجهها في الزحام.. أه يا امرأة من هديل الندى، عاريا من ذنوبي أتيت أنا العاشق الذائع الجرح، قد غسل الثلج بين ضلوعي ثلاثين حزنا ومملكة للجنون.. ألوذ براحلتي في الصحارى أقطّعها دمعة دمعة.. هذه هي حقيقة التجربة الإنسانية، غير مكتملة، ويلفها الحزن في مجملها، لا يتعرف حقيقتها إلا من عركها وتأملها مثل شاعرنا ينبوع الإحساس والإرهاف. صالح وفلسطين. يكاد يستحيل أن يخلو ديوان لعبد الناصر من موضوع الوطن، فنجد قاعدة الحب الراسخة لدى الشاعر تترك ينبوع الحياة (المرأة) قليلا، لتلقي محبتها على المكان الذي يحتضن تجارب الحب جميعها (الوطن). يقول في (سلمتْ يمناكْ) عن صبي فلسطيني يرمي الحجارة: "أيّ صبي أنت؟!.. تكبر قبل أوانك تحفظ كل دروسك غيبا لا تخطىء في الجمع/ الطرح/ القسمة والإعراب. تتقن جغرافية الوطن وتاريخ الأنساب. شكرا عبد الناصر.. على هذا الإرهاف الخمسيني المحنك بتجارب الأعوام، وبأفراح الزمان، وبمرارات الأيام.