مظاهرة مليونية تحمل رسالة قويةالحراك الذي تشهده مصر حاليا حراك صحي يكشف عن حرص اكيد للحفاظ على الديمقراطية وقيم الثورة، طالما استمر في اطاره السلمي، او الحد الادنى منه، لكن الخطورة تكمن في انفلات المشاعر، وتحول حالة الانقسام التي تتضخم الى مواجهات دموية مثلما حدث في بعض مناطق مصر التي شهدت مظاهرات للطرفين المتصارعين. المظاهرة المليونية التي نظمتها المعارضة يوم امس في ميدان التحرير احتجاجا على الاعلان الدستوري الذي اصدره الرئيس محمد مرسي ومنحه صلاحيات تشريعية وتنفيذية مطلقة، وجهت رسالة قوية الى النظام يجب ان يأخذها الرئيس مرسي بعين الاعتبار وهو يتحسس خطواته المقبلة. وربما يجادل البعض بان امتلاء ميدان التحرير بمئات الآلاف من المتظاهرين ليس بالعملية الصعبة في بلد تعداد سكانه تسعون مليون نسمة، وهذا جدل ينطوي على بعض الصحة، ولكن نوعية هؤلاء المتظاهرين، من اطباء وصحافيين وقضاة وفنانين وقادة مجتمع مدني، ومحامين، تجعل الحضور متميزا بالمقاييس المحايدة. هذا لا يعني ان الطرف الآخر، اي تحالف الاخوان والسلفيين لا يستطيع حشد مظاهرة اكبر، تتواجد فيها نوعيات وكفاءات مماثلة، من مختلف الوان الطيف المهني في مصر، فلا شك ان قرار حزب الحرية والعدالة، الذي يمثل حركة الاخوان بالغاء، او تأجيل المظاهرة المضادة التي كان يعتزم تنظيمها في ميدان جامعة القاهرة كان قرارا حكيما جنب البلاد مواجهات هي في غنى عنها وهي تجاهد من اجل الخروج من ازماتها الاقتصادية المتفاقمة. اللافت ان انصار النظام الديكتاتوري الفاسد السابق كانوا الاكثر سعادة من حدوث هذا الانقسام بين ابناء الثورة، وتطوره الى الصورة التي نراها حاليا، ولا نبالغ اذا قلنا ان بعض هؤلاء اندس وسط المتظاهرين لصب الزيت على نار الانقسام، وترسيخ جذور الفتنة. من المؤكد ان رموز النظام السابق الذين يقبعون خلف القضبان بعد ادانتهم بتهم الفساد والقتل واستغلال النفوذ ونهب المال العام يفركون اياديهم فرحا وهم يتابعون ما وصلت اليه الاوضاع في مصر الثورة من تدهور نحو هاوية مظلمة لا يستطيع احد التنبؤ بعمقها، وما يمكن ان يترتب على السقوط فيها من كوارث. الحل الامثل الذي تريده المعارضة هو تراجع الرئيس مرسي عن اعلانه الدستوري وسحبه باعتباره القنبلة التي فجرت الاحتجاجات الحالية، بينما يرى الرئيس وانصاره ان هذا الاعلان ضروري لفرض الاستقرار، وتحصين الثورة، والانتصار للشهداء وتحييد المؤسسة القضائية التي تحتاج الى اصلاح جذري. في ظل هذا التأزم، واصرار كل طرف على صحة موقفه، لا بد من ايجاد حلول ومخارج، ابرزها الاحتكام الى الشعب في استفتاء عام ليقول كلمته حول هذا الاعلان الدستوري، في حال تعذر الحلول الاخرى، لان البديل هو المواجهات التي تبدأ سلمية وتنتهي دموية. ندرك جيدا ان الدعوة للحوار والحلول الوسط لا تجد قبولا من قبل اي من الطرفين المتصارعين، لان كل طرف يعتقد انه محق في موقفه وينسى الجميع ان من اهم اعمدة الديمقراطية التعايش والحوار وتقبل الرأي الآخر. هذه الصحيفة وقفت في خندق الثورة مثلما وقفت منذ عشرين عاما ونيف ضد النظام السابق وفساده وتحملت من اجل ذلك الكثير، ولهذا ستقف في خندق الشعب ومصلحته في الاستقرار والحكم الرشيد، واقصر الطرق للوصول الى هذه الاهداف هي في عدم التخاصم بالمظاهرات، وتجنب اطلاق الاتهامات، فالطرفان المتخاصمان كانا جناحي الثورة، وقدما الشهداء سويا من اجل انجاحها.لسنا من الوعاظ، ولا نحن من انصار الكلام الانشائي المعسول، واذا كنا نمسك العصا من الوسط، فلاننا نعلم جيدا اخطار استمرار هذا الانقسام وتطوراته على مصر وشعبها، فليس هناك اسهل من توجيه الاتهامات والانحياز الى هذا الطرف او ذاك، ولكن من يحب الخير لمصر ويخشى عليها من المهالك والاخطار، يجب ان يطفئ الحرائق لا ان يصب الزيت عليها ويحاول ان يجمع الناس على كلمة سواء ومسؤولة عنوانها التوافق والتعايش والتنازل من اجل مصر التي هي اكبر من الجميع، وهي التي ستبقى في نهاية المطاف.