حين قالوا أن عصر المعجزات انتهى، قصدوا معجزات السماء مع الأنبياء، لكن الأرض تنجب يوما بعد يوم أنبياء جددا، يحققون المعجزات، ويصنعونها، لنراها ماثلة أمامنا، فنا وجمالا، بين الكتب واللوحات والموسيقى. محمد دكروب الذي بدأت حياته كأي إنسان لا يوحي لأحد أنه من الممكن أن يشغل الناس، ويصدر مجلة من أهم المجلات اليسارية العربية. الشاب السمكري، العامل في محل للأطعمة، بصدفة، أخذته إلى العاصمة بيروت، وعرفته على كتاب، وكتب. صدفة جعلته من مناضلي الماركسية الكبار. رحل دكروب 24/10، عن عمر ناهز الرابعة والثمانين، قضاها بين مجلة «الطريق» التي قال عنها بأنها خليته الحزبية. القسم الثقافي جيل المعارك الأولى عباس بيضون في «خمسة قروش» مجموعة محمد دكروب القصصية تجولت في أزقة صور وتعرفت على ظرفائها وقبضاياتها ووجوهها في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي. كانت المجموعة كصاحبها أنيسة سلسة فكهة. كانت بالتأكيد وثيقة اجتماعية بقدر ما كانت فناً رائقاً وأكثر ما حيّرني أن صاحب هذه المجموعة الواعدة لم يكمل في الدرب الذي سلكه بحرفة، فقد توقف محمد دكروب عن كتابة القصة التي كان مهيأ بطبعه وخبرته لها، وحين سألته عن سبب ذلك قال إنه أدرك بعد ذلك أنه لم يكن موهوباً بما يكفي لهذا الفن. وأنا الذي استمتعت بقراءة «خمسة قروش» وحدست أن لصاحبها استعداداً طبيعياً لكتابة القصة لم أقتنع بجواب محمد دكروب بل زادني حيرة، فقد كنت متأكداً أنه لو تابع في هذا الطريق لكان لنا محمد عيتاني آخر، ولوجد للجنوب من يترك لنا صورة حية عنه في أواسط القرن الماضي. كان محمد دكروب ذاكرة هذا الجنوب. ذاكرة «صور» تلك المدينة التي ولد وعاش في صميمها. واحداً من الذين يتلقون فنهم قبل كل شيء من العمق الشعبي، بل ينقلون إلى الفن طرافة وبديهية وسليقة هذا العمق. لقد تكون محمد دكروب في هذا الصميم حيث كل يوم يحمل تجربة جديدة، كان أبوه علماً على الظرافة في صور، كادحاً وأنجب كادحاً، كأبيه صار محمد صاحب حرفة، وكأبيه كان قطباً في الأنس والظرافة. لكن محمد وهو يزاول حرفته كان يقرأ بوفرة، داخلاً بذلك في صلب هذا المناخ الثقافي الذي حمل أسئلة التنوير وأسئلة التحديث والدولة والاستقلال السياسي والاقتصادي والوحدة القومية والعدل الاجتماعي. التحق محمد مبكراً بهذا التيار ولا نعرف كم تنقّل فيه حتى استقر في الحزب الشيوعي. لم تكن هذه يومذاك سيرة تقليدية ولم يكن محمد دكروب تقليدياً. كانت الجواذب كثيرة وانحاز هو إلى الطرف الأقصى، إلى الموقع الأكثر راديكالية. كان محمد دكروب مصداق المقولة الماركسية عن المثقف الثوري، فقد جاء من الأوساط العمالية، كان يعمل بيديه وعقله في آن معاً وكان بين يديه وعقله تطابق واتصال. لقد تحولت تجربته الكادحة إلى أفكار وأطروحات وشعارات ونضال يومي. هكذا تحول محمد دكروب إلى أديب مقاتل، إلى مثقف عضوي، على حد تعبير غرامشي، وكان رديفه في ذلك وقرينه، أديب آخر جاء إلى الشيوعية من الحوزات الدينية هو الراحل الشهيد حسين مروة، حمله إليها ذات الانخراط في تيار التنوير وذات الأسئلة وذات العقل النقدي والاثنان أخذا على عاتقهما الصحافة النظرية والأدبية في الحزب وكانت يومذاك متجسدة في «الثقافة الوطنية» و«الطريق». بعدما جرى على الأنظمة الشيوعية وبعد سقوط المعسكر الاشتراكي، كان من الطبيعي أن تهتز قناعات، وأن تذوي قناعات وأن يتحرر كثيرون من التزاماتهم وأن يبتعدوا عن مواقعهم، وليس في هذا أي شائبة، فما جرى زلزال تاريخي ومن الطبيعي أن تتزعزع أفكار ظلت على التزامها بما اعتبرته كتلة تاريخية وما حسبته مساراً لا ردة عنه. قليلون من المثقفين استمروا بتعب في الطريق وكثيرون وجدوا أنفسهم متحررين من أي التزام. من هؤلاء القليلين ظل «المثقف الثوري» محمد دكروب. لم يكن محمد متحجراً ولم يكن خشبي اللغة والعقل، كان عقله كمزاجه سلساً مرناً ليناً لكنه لم يرد أن يرتد عن طريق التزم به رغم معرفته وعورته ومشاقه. لكنه شاء أن يكون حراً فيه، هكذا عاد وهو في الثمانينيات إلى مجلة الطريق بشروطه هو. شاءها مجلة للفكر التنويري واليسار العربي. ونجح الثمانيني في ذلك. وكان في ذلك مفلحاً فالحاجة إلى مجلة لليسار المتزعزع المشتت المصدوم والضائع غالباً حاجة حقيقية. استطاع محمد دكروب في الطريق في الأعداد القليلة التي أصدرها ان يجمع حولها بل أن يسترد لها لفيف من هذا اليسار، واستطاع أن يخلق مجلة بشروطه هو، وهي شروط انفتاح وحرية وعقل نقدي. هذا الثمانيني كان وهو في الرابعة والثمانين نفسه، أنس وفكاهة وحضور بديهة وألفة وشباب جسد وروح. غاب عني ردهة ولما لقيته في «السفير» منذ اسبوعين وجدت العمر قد ظهر في وجهه ولم يكن ذلك ملحوظاً من قبل. قال له زميل لم يستطع ان يمسك عبارته انه يبدو «مجعلكاً» وأجابه محمد دكروب لتوه «أما انت فمكوي» كان هذا جوابه المسدد الفكه. ظهر العمر في وجه محمد دكروب لكن طبعه وروحه ومزاجه بقيت هي نفسها. منذ أقل من أسبوعين التقيته وما خطر لي انه قد يكون اللقاء الأخير. قد يكون محمد دكروب من أواخر جيل خاض المعارك الأولى في لبنان. جيل عمر بالأحلام والتطلعات. وناضل في سبيل انقلاب اجتماعي وجابه الوراثة السياسية وعمل على تأسيس أدب له واقعه وله مرجعه. تكريم محمد دكروب هو أيضاً شهادة على هذا الجيل الذي ظل بعض أفراده صبورين وحين انهار كل شيء لم يعيشوا كغرباء ولم تعقل الدهشة والرهبة ألسنتهم، ولم يحيدوا عن الطريق وإنما استمروا أشقاء وأخوة وأصدقاء ورفاقاً أحياناً وسط كل هذا الركام. في تأريخه للحزب الشيوعي سماه محمد دكروب «السنديانة الحمراء»، بعد ذلك تشلعت السنديانات الأم وتقصفت السنديانات الأبناء، وما بقي سنديانات فردية، لعل محمد دكروب، وهو يناضل في الثمانينيات، إحداها.