رواية "مذكرات ولهى"* هل لا يزال هناك هامشاً للحوار؟ عزيزي الأخ/ محسن الخزندار بقلم، جمال أبولاشين في عالم الأدب والثقافة يبقى دوماً هامشاً واسعاً لكل ذواق ومهتم حيث الحوار والنقد البناء يسبحان في هذا العالم الغني والثري، عندها تنفتح الرواية كعمل إبداعي على عوامل جديدة، ففي الوقت الذي يثري الحوار الرواية نجد النقد البناء يصدر حكماً على العمل الأدبي من منظور عدم نهائية هذا الحكم، والأخذ بيد المبدعين للاستمرار والعطاء حيث هنا يجب أن يكون الهدف من النقد. لذا أجد نفسي من خلال هذا الهامش الواسع، ورغم عدم عملي في النقد الأدبي منفتحاً على الحوار مع كاتب الرواية الأولى له والمعنونة باسم (مذكرات ولهى) وليست العمل الأول له في مجال الكتابة. فالمعروف لدى الجميع أن المذكرات هي جملة مواقف وانفعالات مر بها الشخص وصارت جزءاً من ماضيه، وبالتالي من ذاته وتركيبته، بل لها تأثير في شخصيته ومواقفه بحكم أنها تجربة معاشة، لذلك هي لدى من مر بها تمثل حياته بحسناتها وسيئاتها، ولكن لدى كاتب الرواية هي إعادة كتابة للمكتوب بحيث يضفي الكثير من إبداعاته على العمل ويؤثر فيه، لا سيما وأنه لا بد أن يعايش تجربة الآخرين معايشة لصيقة حتى يخرج بعمل ناجح، وهكذا عمل كاتبنا الذي أصبح جزءاً من الرواية، وهذا حقه في إعلان وجوده، إنما ما نوده من الكاتب أن يحرص في هذا الحضور حتى لا يعبث بالشخوص في الرواية ويقف في أحيان مدافعاً عنهم أو متهجماً عليهم موجهاً القارئ لما يريد هو، وليس ما كتب في المذكرات. للوهلة الأولى التي نشاهد فيها صورة الغلاف للرواية نستشعر من انتقائها أننا بصدد تجربة حب، ويعزز هذا الانعكاس عنوان الرواية (مذكرات ولهى) من الوله بمعنى الحب الشديد والتعلق بالحبيب، رغم ذلك نرى البطلة أو صاحبة الصورة الدالة عليها (وهي مريم) تقف على رمال البحر بثوبها الأبيض تنظر للأفق الممتد لحظة غروب الشمس حيث يتهيأ الليل لإسدال ستائره، والبحر أمامها بلا نهاية إنصبغ بلون الشفق، في تلك اللحظة نرى مريم تحتضن الفراغ وحيدة تدير ظهرها وتحيط بها الأعشاب البحرية ذات الأشواك، وكأنها تنتظر من يأتيها على صهوة الجواد الأبيض ليخلصها من حزنها ووحدتها تبث أحلامها للبحر لتتخفف مما أثقل كاهلها، فهنا دفنت ذكرياتها وأسرارها، وأمام عظمة البحر تسرح في أحلامها وخيالاتها. هذه هي مريم في الرواية شخصية متحدية قوية متحررة وفي الوقت نفسه ضعيفة هشة أمام جبروت أقاربها، وسلبية والديها خصوصاً الأب الذي لم يرزق سوى بنات، ويعيش على ذكريات تاريخه الوطني والذي يمثل اليسار في مرحلة أفوله وتقهقره، والأعمام والأخوال وأبناء العمومة كلهم من الأغنياء والمقتدرين وبالتالي يضربون سياجاً حول بناتهم حتى لا يخرج ميراثهم خارج العائلة، أخلاقياتهم كما تصفها الرواية منحدرة بكل المقاييس، وهم حسب الرواية يمرون في لحظة تاريخية تهدد وجودهم والمتمثلة في قدوم السلطة الوطنية الفلسطينية وتنعكس على تصرفاتهم في المحافظة على الجدار المصمت الذي أحاطوا عائلاتهم به وهو في المحصلة ترّفع عن عامة الشعب، وتناقض ثقافي واجتماعي وبالتالي طبقي، ولكن هذا التناقض بقي على الدوام تناقض غير أساسي بسبب الاحتلال ووجود تناقض أساسي معه وهنا نجد أن الصراع الطبقي غاب خلف القضية الوطنية الأساسية، الفئة التي يتحدث عنها كاتبنا ويعريها تماماً بالنموذج الذي عايشناه في الرواية، وهي فئة متعلمة ومثقفة حاولت أن تقود المشروع الوطني ولكنها لم تستطع، وذلك لأن قيادة العمل الوطني صارت من الخارج، هنا كانت مساهمتهم في الهم الوطني عبر شخصيات لها حضور في المجتمع الفلسطيني والتي تقلصت مساهمتها في انتفاضة الحجارة بسبب غياب كثير من تلك الشخصيات عن المشهد. قضايا الميراث والمخدرات والنساء والنصب والاحتيال وخلافه مما يطرحه الكاتب كمشكلات خاصة بالطبقة التي يتحدث عنها ليست حكراً عليهم بل نجدها أيضاً في الطبقات الأخرى من المتوسطة إلى الفقيرة، ولكن بصور مختلفة، وهذا جزء من معاناة أهالي القطاع الذي بات كالإسفنجة تمتص كل ما حولها دون تمييز. لماذا لم أتعاطف بقوة مع مريم ؟! سؤال ألح عليَّ بعد انتهائي من قراءة الرواية، فمريم التي توجه رسائلها وذكرياتها لابنتها عن مسيرة حياتها وما واجهته منذ الثانوية العامة وحتى كبر أبناؤها من صدمات أوصلتها في كثير من الأحيان لحافة الانتحار، وهي المفتقدة لدفء البيت وحمايته أمام تغول أقاربها الفاسدين الذين يقتلون روحها باستمرار، والتي ترتمي في أحضان كل من يحاول التقرب منها، وتفشل في علاقاتها المتسرعة، نجدها تنهض دوماً لتعاود الكرة دون أن تترك مجالاً للحب الحقيقي أن ينمو أو متنفساً للسعادة أن تطرق بابها. ولكن أمام الأزمات والصدمات التي عايشتها يعود السؤال لماذا لم أتعاطف معها؟ هل هو التمييز البيولوجي ضد المرأة والذي يسكن عقولنا لدرجة أن نجدها أقرب (لبائعة الهوى)؟ قد يكون هناك جزءاً من ذلك، أو أن شخصية مريم (حرة) بكل المقاييس وهو ما لا يناسب ثقافتنا أيضاً ممكن، أو أن شخصيتها لم تظهر في الرواية على حقيقتها، فنحن لا نعلم هواياتها أو طموحاتها أو متى تفرح ومتى تغضب، فكل ذلك غاب في شخصيتها مع تكثيف حجم مأساتها، أو هل هو غياب وصف المكان وجماله والمؤثرات الحركية التي تستقي من الحياة اليومية للناس وفرض المأساة نفسها على الكاتب لدرجة أنه عايش المذكرات الحزينة الممتلئة صخباً وهماً لدرجة غياب الجمال في روايته رغم أنه عرج على ذلك قليلاً في وصف المكان لا جماليته وشاعريته؟ أو هل الثقافة المدعاة لمريم دفاعاً عنها وتطهيراً لها وهي التي لا تحتاجها بقدر ما تحتاج من يحنو عليها ويوجهها؟ هذا من الممكن أن يكون من الأسباب التي جعلتني لا أتعاطف تماماً مع مريم، وهي تدرك ذلك وقد حدثت ابنتها به لخوفها من أهم حكم تنتظره وهو الذي يصدر من فلذة كبدها. والسؤال الثاني الذي واجهني في كثير من الأحيان أثناء قراءتي هو ماذا تطرح الرواية؟ وماذا تقدم من جديد؟ لقد علَّق كاتبنا الأجراس في العديد من القضايا التي تحكم واقعنا الاجتماعي وعاداتنا يمنع الاقتراب منها، والتي كانت حبيسة الجدران الصماء وما يدور داخلها عند الفئة ذات الجاه والسلطان، والتي كانت يوماً ما في طليعة أهالي القطاع. والسؤال الآخر أين أصبح موقع اليسار ممثلاً في والد مريم؟ هل يعيش على ذكريات الماضي وبطولات ذوت مع الوقت؟ أم أن هناك متسعاً للعمل لا زال موجوداً؟ وأين صار اليمين إن صح أن نطلق عليه هذا المسمى؟ هل تراجع مفسحاً المجال للون جديد حل مكانه أثرياء حروب صعدوا القمة بدون عناء؟ وهو تساؤل قد يكون الكاتب أجاب عنه في تغيُّب الاثنين، وطرح البديل الممثل في الحاج أمين الذي كان مثالاً للصفاء والنقاء والتدين ومساعدة الغير، والذي وقف بجانب مريم وزوجها إلى أبعد الحدود. والسؤال الذي يطرح نفسه هل كان هذا المخرج للصراع هو الحل بنظر الكاتب؟ وهو ما ينكره الكاتب حين يتحدث في روايته عن مدعي التدين والنصابين الذين يتخذون من الدين ستاراً يدارون فيه عيوبهم، إذاّ هي دعوة للرجوع إلى الدين الصحيح البعيد عن الحزبية والصراعات السياسية، بمعنى الرجوع للأصل في التدين الذي تفرضه الفطرة السليمة. الأخ محسن الخزندار/ رغم أن تلك الرواية هي الأولى لك إلا أنها جاءت في وقت غابت فيه الأقلام عن الكتابة، وتراجعت الثقافة بقدر كبير، رغم أن المثقفين في تزايد، وهذا مرده أن الثقافة لم تعد أولوية أمام الوضع السياسي المنهك الذي نعيشه، ولم يعد لها قدسيتها كسابق عهدها، وبتلك الرواية فتحت أسئلة كثيرة أهمها لمن نكتب؟ وماذا نكتب؟ فثقافة الكتاب بحاجة لأن يعاد لها الاعتبار أمام ثقافة وافدة عصرية سرعان ما تزول ولا تعلق في الأذهان.