فمن الصعب أن نتطلع إلي استقرار في ظل انقسام حاد حول الدستور, ولذلك ينبغي إعطاء فرصة أخيرة للسعي إلي التوافق الضروري للاستقرار حتي بعد تحديد موعد للاستفتاء, فليس هناك ما يمنع تأجيل هذا الموعد في حال وجود فرصة للتوافق. فلا تستحق مصر ما نفعله فيها نتيجة تفاقم حالة الانقسام السياسي وبلوغ الاستقطاب مبلغا يهدد بأخطار لا سابق لها في تاريخنا الحديث, وما لم نتدارك تداعيات هذا الاستقطاب بأسرع ما يمكن, ربما نعرض الوطن لما لا يتصوره أحد الآن, وهل كان متخيلا قبل أسابيع قليلة أن يسقط ثلاثة شهداء في وسط القاهرة ودمنهور خلال أسبوع واحد, وأن يظهر الانقسام السياسي مجسدا في الميادين في مشهد غريب علينا؟ فما لم يكن متصورا حدث, وما قد لا يتخيله الكثير الآن قد يحدث إذا لم نضع حدا للاندفاع نحو حافة الهاوية بسبب خلافات يدور أهمها حول الدستور الذي لا يصح أن يصدر في مثل هذه الأجواء, أو أن يكون مختلفا عليه. ولذلك فالخوف هو أن يكون الإصرار علي إصدار دستور غير توافقي مدخلا إلي مزيد من الاحتقان والاضطراب, وليس مخرجا من حالة الاستقطاب الآخذة في الازدياد, وليس ممكنا أن يسهم دستور يصدر في مثل هذا الوضع في تحقيق الاستقرار المنشود لغياب التوافق المجتمعي والسياسي عليه, وليس فقط لشبهة العوار القانوني. فعلي المستوي القانوني, ستبقي الجمعية التأسيسية موضعا للطعن علي عملها حتي بعد انتهاء عملها بسبب انسحاب نحو ربع أعضائها الأساسيين الذين يمثلون مكونات أساسية في المجتمع, فلم يصدر دستور منذ 1923 في غياب هذه المكونات عن الجمعية أو اللجنة التي وضعته, أو في ظل اعتراضها عليه. كما أن محاولة تحصين الجمعية التأسيسية في الإعلان الدستوري الصادر يوم22 نوفمبر الماضي لن تمنع الطعن لاحقا, لأن هذا الإعلان نفسه زاد الوضع الدستوري ارتباكا, ففضلا عن مضمونه الذي زاد حدة الاستقطاب, ثمة سؤال محوري عن سلامة قيام رئيس الجمهورية بعمل من أعمال السلطة التأسيسية علي رغم وجود هذه السلطة نفسها ممثلة في الجمعية المختلف عليها, فلا يمكن أن تكون هناك سلطتان تأسيسيتان في وقت واحد, مثلما لا يصح أن توجد حكومتان مثلا. لذلك, وسعيا للبحث عن مخرج من هذا الوضع, ينبغي التفكير في حلول مبتكرة عبر حوار جاد وبناء بعيدا عن الاتهامات المتبادلة, لأن الجميع خاسرون ما لم يتعاونوا من أجل حماية الوطن من أخطار قد تفوق ما نتصوره الآن. ولأن حماية الوطن من هذه الأخطار تبدأ بمعالجة أزمة الدستور ليكون جزءا من الحل وليس من المشكلة, يمكن التفكير في محاولة جديدة وقد تكون أخيرة لبلوغ التوافق الذي استحال الوصول إليه حتي الآن, فقد انسحب من تركوا الجمعية التأسيسية لإصرار إدارتها علي تغليب تصورات معينة لعدد من القضايا الجوهرية التي ينبغي أن يكون هناك توافق عليها, وعدم إعطائهم فرصة لمواصلة جهودهم لتحقيق هذا التوافق, وتحديد جدول زمني ضيق للانتهاء من مشروع الدستور, وعدم إشراك من يعبر عن رؤيتهم في لجنة صياغة مصغرة حدث إصرار عليها دون أن يكون لها وجود في اللائحة. ولذلك فهم يرون أن المشروع الذي يصدر عن جمعية تأسيسية علي هذا النحو إنما يعبر عن وجهة نظر تيار واحد بفصائله المتعددة. هذا هو أيضا ما أثار مخاوف معظم أعضاء اللجنة الاستشارية الفنية للجمعية التأسيسية بعد إهمال مقترحاتهم وتصوراتهم وتعديلاتهم التي تنطلق من رؤية مهنية محايدة لا علاقة لها بأي خلافات سياسية أو فكرية, ولذلك انسحب ثمانية من أصل عشرة أعضاء في هذه اللجنة, وأعلنوا في بيان انسحابهم أنهم سيكملون العمل الذي بدأوه في فترة وجودهم في الجمعية التأسيسية ليضعوه في إطار مشروع متكامل للدستور يليق بمصر. ولما كان أعضاء الجمعية الذين انسحبوا قد قدموا قبيل انسحابهم, وعندما وجدوا أن الباب يغلق أمام جهود التوافق, تصورا متكاملا يتضمن التعديلات والإضافات التي يرونها وفقا لآخر مسودة طرحت في ذلك الوقت بتاريخ5 نوفمبر الماضي, فهذا يعني أن لدينا ثلاث مسودات بشأن مشروع الدستور الجديد, ولأن الاختلاف بين هذه المسودات يتركز في بعض المواد الأساسية الأكثر جوهرية, وليس كلها, فربما لا يكون صعبا التوفيق بينها واستخلاص مشروع واحد متكامل منها جميعا بواسطة لجنة محايدة ذات طابع مهني تام وليست طرفا في الخلافات القائمة, ويمكن تأجيل الاستفتاء في هذه الحالة عدة ايام تنتهي خلالها اللجنة المقترحة من إعداد مشروع دستور توافقي استنادا علي المسودات الثلاث. الفكرة, هنا, هي أن توضع هذه المسودات التي تعتبر كلها صادرة عن الجمعية التأسيسية ولجنتها الاستشارية الفنية بين يدي هذه اللجنة التي يمكن تشكيلها كالتالي: عدد من أكبر أساتذة القانون العام سنا (ويمكن أن يكون بين 6 و10 مثلا), وعدد من عمداء كليات الحقوق في أقدم الجامعات المصرية (بين 6 و10) أيضا, وعدد من رؤساء أقسام العلوم السياسية في هذه الجامعات (بين 4 و6 مثلا) ولا يكون لهذه اللجنة أن تضيف أي نصوص جديدة إلي المسودات الثلاث التي ستنظر فيها, بل يقتصر عملها علي التوفيق بين هذه المسودات عبر مناقشة المسائل الخلافية واعتماد أفضل مقترح في كل منها بعد المقارنة بينها, وضبط الصياغة النهائية بشكل احترافي حتي لا يكون الدستور الجديد أقل مستوي من الدساتير السابقة.