مواضيع ذات صلة عادل إبراهيم حمد عايش السودان بعد استقلاله فترات الانتقال مرتين, الأولى بعد ثورة أكتوبر حين ترأس الأستاذ سر الختم الخليفة حكومة انتقالية مهدت لانتخابات عامة, وكانت الانتقالية الثانية بعد انتفاضة أبريل حين ترأس المشير سوار الذهب المجلس العسكري وترأس الدكتور الجزولي دفع الله مجلس الوزراء. أعقب كلتا الفترتين حكم شمولي أطيح به في ثورة شعبية. وقصد من الفترتين الانتقال السلس لنظام ديمقراطي, وقد مهدت الفترتان لانتخابات عامة ما كان في الإمكان إجراؤها فور سقوط النظام الشمولي, حيث لا يعقل الانتقال المفاجئ لنظام جديد مختلف بلا ترتيبات دستورية وقانونية, ولا ينتظر أن تستدعى أحزاب كانت محظورة للنزول في معارك انتخابية بلا إعداد ومهلة تسترد فيها الأحزاب قواها التي أضعفها انقطاع التجربة وأنهكتها ملاحقات الأجهزة الأمنية. يعيش السودان الآن أزمة سياسية, خاصة بعد أن امتد الصراع على السلطة ليشمل أهل الحكم داخل بيتهم, وتطرح أحياناً فكرة الحكومة الانتقالية لإخراج البلاد من أزمتها. تأتي الفكرة هذه المرة مختلفة عن السابقات, حيث لا تشكل الحكومة بعد سقوط النظام بل تشكل بلا إسقاط له, ويكون حزب المؤتمر الوطني أحد مكونات الحكومة الانتقالية, هذا التصور المختلف فرضه اختلاف حكم المشير عمر البشير عن تجربتي حكم الفريق عبود والمشير نميري, حيث كان العمل الحزبي محظوراً تماماً, بينما حمل نظام الإنقاذ الحالي ملامح ديمقراطية بعد إقرار دستور 2005 الذي نص على التعددية. وأصبح الحزب السياسي بعدها كياناً شرعياً يحق له عقد الندوات والمنافسة في الانتخابات, لكن يعاب على النظام إصداره قوانين تقيد كثيراً الحريات المنصوص عليها في الدستور. التصور الجديد للفترة الانتقالية يعتبر أن إقصاء المؤتمر الوطني تماماً من الساحة السياسية يوقع الأحزاب المعارضة في فخ (الضيق بالآخر) الذي تعيبه الآن على حزب المؤتمر الوطني الحاكم. ويقترح أن تتشكل الحكومة الانتقالية (بعد) إجراء انتخابات توافقية لا أن تمهد الحكومة الانتقالية لانتخابات تنافسية قد تفضي لسيطرة قوى اجتماعية محددة, قد تفرز ما تسميه الأقليات (دكتاتورية الأغلبية). وتعين انتخابات المحاصصة على الاتفاق على فترة انتقال طويلة بدلاً عن تجارب الانتقال السابقة التي لم يسترد فيها الوطن أنفاسه لقصر الفترة. كما يخضع الانتقال تجربة المحاصصة لاختبار قد يجعل من الديمقراطية التوافقية أنموذجاً تتفق عليه الأحزاب في الانتخابات التي تعقب فترة الانتقال, أو تجرى عليه تعديلات لا تلغى جوهر الفكرة. وعلى سبيل المثال قد تقود المحاصصة في فترة الانتقال لوضع ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق تحت إدارة حزب الحركة الشعبية الذي يحمل السلاح الآن ويجد مساندة شعبية في الولايتين. وقد يحظى المؤتمر الوطني بولاية الخرطوم التي تكاد تكون جمهورية قائمة بذاتها. ويتولى الاتحادي الديمقراطي ولاية كسلا, بينما يتولى حزب التواصل ولاية البحر الأحمر, ويدير حزب الأمة النيل الأبيض وجنوب دارفور, ويدير العدل والمساواة شمال دارفور. ما زال حزب المؤتمر الوطني ممسكاً رغم أزمته بمفاتيح الحل, ولو رجح خيار العقل في الحزب لدفع حزب المؤتمر قوى المعارضة السلمية لفتح حوار مع حاملي السلاح حتى يكون التغيير بالوسائل السلمية مبدأ متفقاً عليه بين كافة القوى السياسية في السودان. هذا الترتيب والتدبير مهم لا للحكومة وحدها بل للمعارضة أيضاً حتى تستفيد من تجربتها السابقة في التحالف مع جون قرنق. كان التحالف بين قوى شمالية وحركة مسلحة جنوبية أقرب إلى تحالف المضطرين, يتعامى خلاله كل طرف عما يعرفه من عيوب في الآخر. ولما عرضت الحكومة اتفاقاً على قرنق لم يجد حرجاً في التخلي عن حلفائه لأنه لا يرى فرقاً يذكر بين ظلمة في الحكم وفي المعارضة. ورغم عدم التطابق بين تجربتي حركة قرنق وحاملي السلاح اليوم لكن الأخيرين يرون أيضاً أن قوى المعارضة لا تخلو من قوى اجتماعية أسهمت في ظلم أهل الهامش الذين يتحدث حاملو السلاح باسمهم. وعليه فإن التفاوض يجلي الصورة لكل الفرقاء ويجعل الجميع يقدمون على فترة انتقالية خالية من الشكوك. الفترة الانتقالية المقترحة لا تعني منح بعض الأحزاب حصة من الكراسي تحرم منها الأحزاب الآن, بل هي مرحلة لإصلاح دستوري عام يعيد الديمقراطية كاملة إلى البلاد, ويعيد السلام للوطن بعد حالة احتراب طالت نزف خلالها الوطن الجريح دماء غالية. وفرصة لإصلاح اقتصادي يعيد لاقتصاد السودان عافيته ويعيد المستثمرين الذين طردتهم عصابات الفساد المتحكمة. ويسترد للسودان مكانته في الأسرة الدولية التي اهتزت ثم انطمست بسياسات خارجية خرقاء. وما زالت مفاتيح الحل بيد حزب المؤتمر الوطني, فإذا بصّرته أزمته الأخيرة بالحقائق فسوف يقدم على حل متعقل تسهم فيه كل القوى السياسية الفاعلة, وإذا أصر على مغالطة الحقائق فسوف يأتي حل يكتسح المؤتمر الوطني, وقد يهز الاستقرار لحين.