قبل ما يقارب 28 عامًا انطلق المهرجان الوطني للتراث والثقافة تحت مسمّى (الجنادرية)، وذلك من أجل إيحاء التراث الوطني، والإسهام في ركب الثقافة المحلية والعالمية، وطوال هذه المرحلة استمر المهرجان بالتصاعد والتطور عامًا بعد عام، ودورة بعد أخرى، حيث تغيرت الصورة العامة للقرية التراثية (الجنادرية) إلى أن أصبحت معلمًا بارزًا في مدينة الرياض تهفو إليه قلوب الناس أجمعين والمهتمين بالتراث والحضارة، وأصبحت شاهدًا على تراثنا الوطني تستحضره الأجيال مرة كل عام، ويتجلون في قراها المتعددة من شمال المملكة إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها. ولم يكتفِ المهرجان بهذا الحد والقدر، بل جعل الثقافة رافدًا هامًّا وركيزة رئيسة تعكس النظرّةَ الحديثة لمجمل القضايا الفكرية والأدبية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، حيث دأب المهرجان على استضافة العديد من الأسماء العربية والعالمية والمحلية لتشارك في المحاور الثقافية المطروحة للنقاش، وتقدم رؤيتها وتصورها لمختلف القضايا. ومن أجل ذلك نطرح اليوم مع وصول المهرجان إلى دورته ال29 والذي تجاوز محيطه المحلي والإقليمي إلى العالمية، نطرح قضيتنا على عدد من المهتمين والمختصين بهذا المهرجان، من أجل الخروج برؤية واضحة للإسهام في استمرارية وهج هذا المهرجان، وتطوره خلال الأعوام المقبلة، وتطوره من عام إلى آخر ليكون ركيزة سنوية تناقش مجمل القضايا العالمية ويكون له صوت مسمّى في جميع المحافل والميادين الثقافية. إعادة القضايا الكبرى بداية يرى الناقد والروائي الدكتور سلطان بن سعد القحطاني أن المهرجان في صبغته الحالية يمثل الصورة العالمية التي نرغب أن يكون عليها، فقد استطاع أن يكون جسرًا ممتدًا بيننا وبين العالم، وما نريده هو ما يضمن لهذا المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية) الديمومة والاستمرارية المتمثل في الوعي الثقافي الذي أصبح القائمين عليه يتمتعون به إعدادًا وتنظيمًا، فغدت الجهة المنظمة للمهرجان جهة ثقافية تعرف ما الذي يرغب فيه المثقف من داخل المملكة، وعلى وعي آخر برغبات المثقفين من خارج المملكة كذلك. مبينًا أن ما تميز به المهرجان منذ بداياته إلى اليوم هو الطابع المتطور من عام إلى عام ففي كل دورة من دوراته يحاول المنظمون في الحرس الوطني تطوير الأدوات الإجرائية لهذا الفعل الثقافي والتراثي، وهو في كل دوراته يحاول أن يقيم جسورًا بين التراث العربي وجذوره التاريخية القديمة والقومية ليلقي الضوء على كيفية تطور هذه الأفكار عبر هذا التاريخ، وإبراز لما هي عليه المملكة برؤية حضارية. متمنيًا من المهرجان إعادة طرح القضايا الكبرى والتركيز على موضوع واحد في كل دورة ثقافية من دورات المهرجان فهذا أجدى لراصد الحركة الثقافية في المملكة والمتابع لها في العالم بدلاً من التشتت في قضايا متعددة في كل عام فقضية الدورة أمر هام ويحتشد لها مجموعة من العلماء والمفكرين من كل العالم فينبغي الاهتمام بها وهذا ما يضمن استمرارها سنويًا بنجاح، وهو ما تبرهنه محاور البرنامج الثقافي هذا العام والتي تناقش العديد من الموضوعات الهامة، منها: المملكة والأمن القومي العربي، وحوار مفتوح حول (الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد) المنجزات والمعوقات، وحركات الإسلام السياسي والدولة الوطنية، والدبلوماسية السعودية والمتغيرات الإقليمية والدولية، والمملكة والمنجزات الاقتصادية في البنية الأساسية. محاور ثقافية ويضيف عضو مجلس الشورى الشاعر الدكتور عبدالله الفيفي، قائلاً: إن تطوير المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية) أمرٌ بدهيّ؛ فهو مهرجان: وطنيّ، وللتراث، والثقافة. ولكن شريطة أن تكون لتلك الجهات المشارِكة علاقةٌ بالتراث والثقافة، وفق مفهومهما العلميّ المنضبط، لا مفهومهما العامّ، الذي يمكن أن يَستدرج فيه كلّ شيء. وذلك لكيلا يقع المهرجان في الشتات الذي يبدو أنه انزلق إليه، في السنوات الأخيرة. على أن هناك جهة أرى أنها مقصّرة جدًّا في حضورها الجدّيّ، مع أنها أولَى الجهات مسؤوليّة عن الوجود الفاعل والمتمّم لأعمال المهرجان، وأعني جهاز الثقافة والإعلام، بعموم مؤسّساته. لترسيخ الإنتاج المحليّ، والثقافة الوطنيّة، ليُحدث ثروة في المادّة الثقافيّة والإعلاميّة المتنوّعة. مبينًا أن الندوات الثقافيّة المصاحبة كانت تتركّز في البدايات حول موضوعات، من قبيل: «الموروث الشعبيّ في التراث العربي»؛ «علاقة الموروث بمخيّلة المبدع»؛ «علاقة التراث بالإبداع الفنيّ والفكريّ»؛ «الموروث في الفنون الاحتفاليّة»؛ «أَثَرُ الموروث في السُّلوك وأنماط التفكير»، ونحو هذه من القضايا الحيويّة والجوهريّة في اهتمامات المهرجان. إلاّ أنها من بعد تعدّدت الموضوعات، وتشعّبت الاهتمامات، لتُخرج المهرجان، أحيانًا، عن إطاره، إلى قضايا مكانها الطبيعي ندوات جامعيّة خاصّة، أو مؤتمرات دوليّة مستقلّة؛ إذ لا يُعقل أن يغدو المهرجان الوطني للتراث والثقافة ميدانًا لكلّ ما يخطر على البال طوال العام من القضايا الواسعة للأُمّة العربيّة والإسلاميّة والعالم، بل كان المفترض بقاء التركيز على قضايا التراث والثقافة، وتفاعلهما الحيويّ مع الإنسان، ضِمن سياج الهويّة الوطنيّة الواحدة، من غير إقليميّة ضيّقة ولا ذوبان في العالم والمطلق. موضحًا أن هناك قائمة من المحاور التي كان يُعَوَّل على المهرجان في المضيّ في طرحها، كقضايا اللغة: بين الفصحى والعامّيّة واللغات الوافدة والأجنبيّة، وقضايا التعليم، والتربية، والشباب، والإعلام، والمرأة، والتنمية، والفنون، والآداب، من شِعر، ومسرح، وسينما، ودراما، وموسيقى، وفنون تشكيليّة، وفنون إسلاميّة، وعمارة، وتاريخ، وآثار، وأزياء، وحِرَف، وصناعات، ونحوها من الشؤون المغروسة في ثرَى التراث والثقافة الأصيلة والمعاصرة. لذا، أرى أن المهرجان كان قد بدأ بداية صحيحة، إلاّ أنها تخطّفته الأمكنة والموضوعات المتفرّقة. تحولات العالم ويشارك الناقد الروائي الدكتور حسن بن حجاب الحازمي بقوله: إن مهرجان الجنادرية يشكل فعلاً ثقافيًا متواصلا على مدى الفترة الماضية والسنوات الطويلة من انعقاده، وأصبح هذا المهرجان ظاهرة عالمية تستقطب العديد من المثقفين العرب ممّا يعطى له الرغبة في تطويره وتنوعه وخروجه عن الجوانب النمطية والتي سادت في بعض نشاطاته. مضيفًا: إن تطوير هذا الحدث الثقافي الضخم مطلب يفرضه الواقع الذي نعيشه في عصر تلاقي الأفكار والرؤى وفي عالم بأن متطورًا بالثواني وأجزائها. وهو يحظى في كل عام بتنوع وشمولية وتميز فيما يقدم ويطرح من محاور جديدة تدفع بالثقافة إلى آفاق أرحب وأظن أن القائمين على مهرجان الجنادرية يدركون ما تمر به الساحة العالمية وتحولات معالمها الثقافية والتي تحتاج إلى إحيائها وإلى بثها والحفاظ عليها، كما آمل على ضوء ذلك أن يتطور المشهد الثقافي في الجنادرية أكثر مما هو موجود، وتعد فكرة تكريم الرواد أمرًا مهمًّا في ثقافتنا نأمل أن يستمر هذا الفعل ليشمل جميع المبدعين والمثقفين في بلادنا لما لهؤلاء الرواد من حق علينا ينبغي أن نقدمه لهم في حياتهم. مبينًا أن توسيع دائرة فعاليات مهرجان الجنادرية الثقافية هذا العام وتوزيعها في عدد من مناطق المملكة وإشراك الأندية الأدبية في هذا الفعل تعد فكرة حيوية ومثمرة للمنطقة التي ستقام فيها هذه الفعالية أو تلك، فقد خصصت اللجنة الثقافية المشرفة على برنامج الجنادرية لهذا العام إقامة عددًا من فعاليات النشاط الثقافي من أمسيات وقراءات الشعرية وندوات في النادي الأدبي بالرياض، والنادي الأدبي بالدمام، والنادي الأدبي في تبوك، والنادي الأدبي بجازان والنادي الأدبي بجدة، والنادي الأدبي بالأحساء وفي جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن، وجامعة الدمام، وبذلك يكون المستفيد الأول هم الأهالي والمثقفون والأدباء في تلك المناطق البعيدة عن المركز والتي ربما لا تستطيع الحضور إلى الرياض المقر الرئيس للفعالية، وهو ما ينبغي أن يطور هذا العمل في السنوات المقبلة دون أن يقتصر على أمسية شعرية هنا أو محاضرة هناك. زيادة التغطية الإعلامية ويؤكد المشرف العام على جناح جامعة جازان المشارك في الجنادرية هذا العام الدكتور إبراهيم أبو هادي بأن الجنادرية طوال مشوارها قد رسخت في الأذهان قناعة عند جميع المثقفين والمفكرين والكتاب وغيرهم بأن الحرس الوطني الذي أسسه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز تحول بالإضافة إلى مهامه الدفاعية إلى حارس للثقافة القومية. مضيفًا أننا ومن هذا المنطلق نعيش اليوم مرحلة فيها كثير من الطموحات بقيادة حكيمة لا تقود المملكة فحسب بل الأمة العربية والإسلامية أيضًا، وتأتي هذه المناعة من خلال المبادرات التي تقوم بها حكومة المملكة خارجيًّا في مختلف أنحاء العالم، وداخليًا في النهضة التنموية التي تقودوها بكل حكمة واعتدال. مبينًا أن الجنادرية أصبحت اليوم تعد تظاهرة تراثية وثقافية تسعى من خلال ذلك إلى تفعيل التواصل بين الأجيال حيث تتناقل من جيل إلى آخر مشعل المحافظة على التراث والهوية، وتقدم إرثًا إنسانيًّا عريقًا وهو ما يؤكده كل ما يقام في هذا المهرجان بشكل سنوي وما يحمله من بعد حضاري وإنساني. ويختم حديثه بأن البعد الثقافي لمهرجان الجنادرية مازال بحاجة إلى مزيد من التعريف والتغطية الإعلامية عربيًّا وإسلاميا وعالميا، من خلال جميع الوسائل والقنوات المتاحة في مجالات الإعلام المختلفة و في مجالي النشر والتوزيع، وتقديم كافة الجهود في مجال ترجمة هذه الأفكار إلى واقع ملموس على أرض الواقع. معرض دائم ويرى أستاذ الأدب بجامعة الملك سعود الدكتور عبدالله المعيقل أن الحديث عن الجنادرية؛ التراث والثقافة والفكر.. والقرية والموروث الشعبي والفلكلور، يطول ويطول، فهي بانوراما كاملة عن الماضي بكل صفحاته العذبة الجميلة من الحرف والمهن والمسرح والفلكلور والغناء، والشعر الشعبي وشعر الرد والأهازيج، والأناشيد المختلفة من جميع مناطق المملكة والأسواق الشعبية والدكاكين والجمال والكتاتيب، فالجنادرية مسرح شعبي ينبض بالحياة، استطاعت من كل ذلك أن تشكّل في مجمل نشاطها أمرًا مهمًا ألا وهو إحياء التراث الشعبي ممّا يحفظ لنا الهوية ويعزز الشعور بالانتماء، إن هذا المهرجان من أهم المهرجانات الوطنية التي تجمع في ما تحمله من الثقافة جميع خصوصيات مناطق المملكة بمدنها وقراها سواء من الناحية التراثية «المنقولة» أو الناحية التراثية «المقولة»، كما يتضمن هذا المهرجان نماذج حية وجميلة من النتاجات الثقافية الأدبية كالشعر والقصة والرواية والمسرحية والمقالة والدراسة الأدبية والنقدية والفكرية وما إلى ذلك. مضيفًا بأن تكون القرية التراثية (الجنادرية) التي تحمل كل هذا الزخم في فترة معينة من العام أن تكون معرضًا دائمًا ومقصدًا مستمرًا لكل الناس في أي وقت فهذا الذي يحفظ تراثنا ويجعله عالقًا في أذهاننا. المسرح والفنون وقال رئيس جمعية الثقافة والفنون بجازان علي الخبراني: إن مهرجان الجنادرية يحمل في كل عام العديد من الأنشطة والفعاليات الثقافية والأدبية والفنية والمسرحية والتراثية وهو يرسخ في كل عام أهمية هذه الثقافات والفنون التي لابد أن نمارسها ونحافظ عليها ونتعايش معها في حياتنا اليومية. وطالب الخبراني إدارة المهرجان بالاهتمام بشكل أكبر بالمجال المسرحي وتقديم العديد من المعروض المسرحية التي تغطي كافة جهات ومناطق المملكة، وهو من شأنه أن يضمن التنوع المطلوب والإيجابي في هذا المجال. ونوه الخبراني بمحاور البرنامج الثقافي التي تحظى في كل عام بمناقشة العديد من الموضوعات المهمة على الصعيد الثقافي والسياسي الداخلي والخارجي. الجنادرية والمعلوماتية وأوضح الشاعر عبدالرحمن الموكلي أن اهتمام المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية) من خلال برنامجه الثقافي قد تطرق في أعوام سابقة إلى الاهتمام بموضوع المعلوماتية واقتصاد المعرفة وإفراده ضمن فقرات البرنامج الثقافي لدورة واحدة وهو بلا شك أمر إيجابي يتواكب مع الاهتمام بالمعلومات الذي باتت تتصاعد مع تصاعد حركة التقدم البشري في مجالات الحياة المختلفة، العلمية والصناعية والعمرانية... الخ. مضيفًا أن هذه المناقشة لمثل هذه الموضوعات لعام واحد أو دورة واحدة أمر غير كافٍ وخاصة في ظل ازدياد الحاجة لهذه الموضوعات بشكل كبير بعد ثورة المعلوماتية الهائلة التي انفجر العالم بها، وبسبب ما رافقها من تطورات هائلة في مختلف المجالات والميادين. ويضيف أنه منذ تسعينيات القرن الماضي يشهد العالم مناقشات خصبة وجادة حول الطريقة الأمثل للتعامل مع ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، خاصة وأن التطورات الجارية تبشر بمستقبل جديد على مستوى الإنجاز المادي والتقدم التكنولوجي، ومراكز البث الإلكتروني، وبرامج التنفيذ في مجالات الإدارة والعمل الوظيفي وكان من نتيجة تلك التطورات أن انتشرت مصطلحات جديدة مثل «مجتمع المعرفة» و»مجتمع المعلومات» و»مجتمع الاستهلاك» و»ما بعد الحداثة» و»ما بعد المجتمع الصناعي» وعلى هذا الأساس أصبحت المعلومات تمتلك الأثر الكبر في مجمل حياتنا المعاصرة. ويبين أن مجتمع المعلومات هو مجتمع شامل يتمكن فيه جميع الأشخاص، بدون تمييز من أي نوع كان، من إنشاء المعلومات والمعارف وتلقيها، وتقاسمها، والاستفادة منها بأي وسيلة من الوسائل دون اعتبار للحدود الجغرافية. كما أن مجتمع المعلومات عبارة عن بيئة تسمح بنشر المعلومات والمعارف كما تسمح لجميع قطاعات المجتمع باستغلالها في تنميتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، فمثل هذه الموضوعات هي ما نحن بحاجة إلى طرحها للنقاش على طاولة البرنامج الثقافي للجنادرية فهي موضوعات تستحق النظر والتأمل، والمأمول إذا ما نوقشت مثل هذه الموضوعات هو أن تخرج هذه الندوات والجلسات النقاشية الثقافية بخلاصات مهمة نستفيد منها في بلدنا ونعمل على تطويرها لحاضره ومستقبله. صحيفة المدينة