د. إبراهيم عباس- الترجمة اكتسب الباحث الشاب جيدي جرينشتاين شهرة كبيرة بين أوساط اليهود في العالم إثر نشر كتابه» الفليكسيجيدتي» أو «الجمرونة» ( الجمود والمرونة) (السر في قدرة الشعب اليهودي على التكيف & التحدي والفرصة التي تواجه إسرائيل» في ديسمبر 2013، الذي اعتبره البعض «تلمود» جديد لليهود. ويذكر مصطلح «فليكسيجيدتي» الذي اخترعه الكاتب بمصطلح مماثل هو «المتشائل» الذي جعله إميل حبيبي الذي اشتهر بكتاباته الساخرة من المحتل الإسرائيلي عنوانًا لأحد رواياته، فكلا المصطلحين يجمع كلمتين متناقضتين في آن، «فليكسيجيدتي»: (flexibility) بمعنى المرونة، وريجيدتي (rigidity ) بمعنى الصلابة، والمتشائل: المتفائل والمتشائم.. أهمية الكتاب تكمن في الأصداء القوية، التي خلفها لدى الأوساط الإعلامية، حتى أن توماس فريدمان اقتبس مصطلح ال»فليكسيجيدتي» في إحدى افتتاحياته في صحيفة «نيويورك تايمز» قبل بضعة أيام.. كما أن للكتاب أهمية أخرى بسبب ربطه التاريخي والعقدي بتاريخ اليهود القديم والحديث، واستشرافه لآفاق المستقبل بالنسبة لإسرائيل ويهود العالم والصهيونية. نبذة تاريخية يرى الكاتب أن «الفليكسيجيدتي» جاء نتاجًا لتعلم اليهود من دروس التاريخ التي أدت إلى تدمير الهيكل مرتين وتشتتهم في العالم مرة على يد البابليين ومرة على يد الرومان بحيث يمكن اعتبار «الفليكسيجيدتي»، كما نعرفها الآن بأنها تعود إلى الفترة الحرجة في تاريخ اليهود التي أعقبت دمار القدس والهيكل عام 70 م عندما كان رابان يوشانان بن زاكيا يقود اليهود (30 ق.م-90م) وأن الأحداث الدراماتيكية لهذا الخراب والدمار أنهت ستة قرون من التفاوت في درجات السيادة اليهودية والحرية الدينية لليهود في فلسطين، التي يمكن تسميتها بعهد الهيكل الثاني عندما بدأت تلك الفترة بعودة اليهود المنفيين من بابل عام 538 ق.م في عهد قورش، لم تلبث بعدها أن عادت القدس مرة أخرى مركزًا دينيًا لليهود. لكن مع انتهاء الفترة الفارسية (332 ق.م) مع غزو الإسكندر المقدوني ومع اندلاع ثورة المكابيين بعد ذلك ب 150 عامًا في عهد اليهود الحشمانيين الذي استمر 120 عامًا، ظهر الملك هيرود عام 37 م.. الذي استمر في الحكم أربعة عقود جدد خلالها بناء الهيكل وليحدث بعد ذلك الصدام الأكبر مع الإمبراطورية الرومانية. ويقرر الكاتب أنه خلال عقود متعاقبة، كان الشعب اليهودي هو الوحيد، الذي لم تنجح ثوراته ضد الإمبراطورية الرومانية ثلاث مرات ودفعوا ثمنًا باهظًا لهذه الثورات، التي يعددها على النحو الآتي: الثورة الكبرى، التي أدت إلى دمار القدس والهيكل وانتهت بسقوط قلعة الماسادا عام 73 م. الثورة الثانية، وعرفت باسم (حرب الكيتوس)، أو ثورة المنافي التي اندلعت في أماكن شتى في الإمبراطورية الرومانية، خاصة في الاسكندرية، في الفترة (115- 117م)، وقد قمعها الرومان بوحشية. أما الثورة الثالثة فعرفت باسم ثورة باركوكبا (132-135م)، وأدت إلى نهاية الوجود اليهودي في القدس. إسرائيل تعمل ضد مصالحها يكشف جرينشتاين في الكتاب، كما في مقالاته، عن أن إسرائيل، ويهود العالم بشكل عام، يلحقون أضرارًا بالغة بمستقبلهم من خلال الأخطاء التي يرتكبونها بين الحين والآخر، بما يهدد مستقبل الأجيال اليهودية في إسرائيل وفي العالم، ويضرب مثالًا على ذلك حالة التشنج التي أصابت إسرائيل إثر فوز فلسطين بعضوية الأممالمتحدة كدولة مراقب بالرغم من أن هذا الفوز يأتي، حسب اعتقاده في صالح إسرائيل بالدرجة الأولى.. وهو يقول بهذا الصدد في مقال له نشر في 13 سبتمبر 2011 على موقع المعهد الذي يترأسه أن مبدأ دولتين لشعبين وتطبيقه على أرض الواقع بإعلان قيام الدولة الفلسطينية على أرض الواقع وفوزها بالعضوية الكاملة في الأممالمتحدة، وهو المبدأ الذي تماطل إسرائيل في قبوله، من شأنه أن يقوي الاعتراف الدولي بإسرائيل، والتقليل من معاناة اللاجئين الفلسطينيين، وسيدعم علاقة إسرائيل بالأممالمتحدة والتقليل من حالة التوتر الدائم معها.. والأهم من ذلك، سيؤدي إلى تحسين صورة إسرائيل في المجتمع الدولي وتسويق نفسها لدى الجيران العرب كدولة سوية، كما سيقلل من حدة المواجهة بين جيش الدفاع الإسرائيلي والأهالي الفلسطينيين. ويؤمن جرينشتاين بحقيقة أنه عندما تكون القيادة الإسرائيلية ضعيفة، فإن ذلك يوفر فرصة أكبر لإحلال السلام، وأن كل رئيس وزراء إسرائيلي لا يمكنه القيام بأكثر من خطوة واحدة على طريق التسوية السلمية، وبمجرد القيام بهذه الخطوة ينهار الائتلاف الحكومي.. ولذا فإنه يمكن القول إنه إذا كان رئيس الوزراء الإسرائيلي جادًا في توجهه نحو تحقيق تقدم في عملية السلام مع الفلسطينيين، فإنه سرعان ما يفقد نفوذه وبقاءه في السلطة، وهو ما يجيب على السؤال لماذا يكتفي أي رئيس وزراء إسرائيلي بالقيام بخطوة واحدة على طريق الاتفاق مع الفلسطينيين. فكرتان واستنتاج واحد يدور كتاب جرينشتاين حول فكرة مركزية تستند إلى حقيقة تاريخية بأن سر بقاء اليهود واستمرارهم رغم قلة عددهم وما تعرضوا له من حملات إبادة على مر التاريخ يكمن في معادلة المزج بين المرونة والصلابة, وهو بهذا التصور يذهب إلى ما ذهب إليه إبراهام بورج الرئيس السابق للكنيست وللوكالة اليهودية الذي تنبأ قبل نحو عقد بسقوط الصهيونية وزوال دولة إسرائيل مع الاختلاف في الأسباب، فقد استندت فكرة بورج على أن المشروع الصهيوني ظل يستند دائما(حسب وجهة نظره) على دعامتين: العدالة والقيادة الأخلاقية.. غير أن هاتين الدعامتين فقدتا الفاعلية. فإسرائيل ترتكز الآن على (سقالة) من الفساد وأسس من القهر والظلم، ولذا فقد أصبحت نهاية المشروع الصهيوني على الأبواب.. أما فكرة جرينشتاين فتستند على أن المعادلة المسؤولة عن السر في استمرار بقاء الشعب اليهودي وازدهاره حتى الآن تفتقر الآن إلى التوازن بما يدق ناقوس الخطر بالنسبة لمستقبل إسرائيل والصهيونية واليهود كأمة وسنجد في استعراض أهم ما تضمنه كتاب جرينشتاين بهذا الصدد أن لديه أسبابًا مختلفة عن أسباب بورج.. لكن الجمع بين وجهتي النظر يرجح فكرة الانهيار القريب للصهيونية ومشروعها الأكبر رغم أن إسرائيل تعيش الآن عصرها الذهبي. مواطن القوى ونقاط الضعف يرى جرينشتاين في كتابه أن إسرائيل تستحوذ على أربع مزايا: الإحساس بالشعب – الإحساس بالأمة- الإيمان – والتنوير.. وهو يقرر أن كل هذه الخصائص تنبع من التراث اليهودي القديم، وأن اليهود يعيشون الآن عصرهم الذهبي، وأن الشعب اليهودي لم يكن قويًا في أي عهد من العهود، كما هو قوي الآن.. لكن بالرغم من ذلك فإن اليهود ما أن يشعروا بالأمن والرخاء حتى يبدأوا في فقدان هويتهم كيهود ويندمجوا في المجتمعات التي يعيشون وسطها، كما أن لديهم الآن قابلية سريعة لأن يعتريهم الضعف بشكل مفاجئ، لأنهم يعتمدون بشكل كامل على الولاياتالمتحدة وإسرائيل . وهو يرى أن احتمالات هذا الضعف تتزايد الآن بفعل عوامل ابتعاد اليهود عن التمسك بتراثهم، إلى جانب افتقارهم لعقلية المشاركة في المجتمع والتماسك فيما بينهم، وهو ما يفسر ميلهم الآن إلى الزواج من غير اليهود.. كما انهم فشلوا في تكوين مجتمعات يهودية في المنافي، وأصبح العديد من جيل اليهود الثاني والثالث لا يتحدثون العبرية. ويضيف الكاتب أن ما يزيد من التحديات، التي تواجهها معادلة «الفليكسيجيدتي «التغيرات في المجتمعات اليهودية التي تحدث بوتيرة أكثر تسارعًا وعمقًا مما كانت عليه في السابق، وذلك إلى جانب التغيرات ذات الإيقاع السريع التي أصبحت تكتنف العالم.. كما أن انقسام اليهود في إسرائيل والمنافي إلى تقدميين ومحافظين زاد من الضغوط على «الفلكسيجيدتي».. وهو يرى أن من بين أهم مظاهر الاختلال في توازن المعادلة التاريخية التي تفسر استمرار بقاء الشعب اليهودي وازدهاره تظهر في مسألة حدود اسرائيل، التي لم تحدد حتى الآن، وفي البعد الديموغرافي، وأيضًا في مسألة الهوية اليهودية التي تفقد زخمها شيئًا فشيئًا بسبب ابتعاد اليهود عن معرفة أصول العبادات والتشريعات في الديانة اليهودية. الخلاصة يكشف جرينشتاين في كتابه عن سر البقاء اليهودي بعناصره الأربعة (الإصرار- الأمن- الرخاء – القيادة)، حيث تشكل هذه العناصر حالة من التوازن بين الماضي والحاضر، وبين التراث والحداثة، والأهم من ذلك بين المرونة والصلابة. وهذا المزيج يوجد في المجتمع والشريعة اليهودية، وهو المسؤول عن بقاء الشعب اليهودي حتى الآن.. وهو ينظر أيضًا إلى تأثير دولة إسرائيل على المجتمع اليهودي ومرونة وصلابة تلك الدولة (إسرائيل)، ويستنتج أن الحفاظ على الصلابة والمرونة يعتبر السر في نجاح الصهيونية وإسرائيل.. لكن جرينشتاين يعتقد أن إسرائيل في الوقت الراهن لم تعد تبدي اكتراثًا بهذه المعادلة، وأنه يتعين على قيادة إسرائيل إذا كانت حريصة بالفعل على الحفاظ على دولة إسرائيل والحيلولة دون انهيار الصهيونية وانتهاء الحلم الصهيوني العودة مرة أخرى إلى «الفليكسيجيدتي»، بحيث لا تطغى الصلابة على المرونة، وهو ما يتطلب الحاجة إلى المزيد من التواصل مع العالم شاملًا ذلك التجارة والنقاش العلمي والسياحة. الكتاب: يحتوي هذا الكتاب الذي يضم 322 صفحة على تقديم لأبراهام أنفيلد واستهلالة، وخمسة فصول. المؤلف: جيدي (جدعون) غرينشتاين- منظر ومحلل إستراتيجي إسرائيلي، مؤسس ومدير معهد «ريئوت» للتفكير الاستراتيجي، وهي مؤسسة لا تنتمي لأي حزب إسرائيلي، وغير ربحية مختصة بالدراسات الاجتماعية والابتكار في مجال التقنية والأمن القومي والتنمية الاقتصادية.. وقد اشتهر بمبادرته التي يدعو فيها الشعب اليهودي إلى تخفيف وطأة الفقر عن ربع مليار نسمة من سكان العالم الأكثر فقرًا خلال 10 سنوات. وينشر جيدي مقالاته في أغلب الأحيان في صحيفة «ذا هافينجتون» الأمريكية. المزيد من الصور : صحيفة المدينة