GMT 0:05 2014 السبت 8 مارس GMT 0:49 2014 السبت 8 مارس :آخر تحديث محمد الدحيم الجمال يتداخل في تفاصيل حياتنا عبر الظواهر الجمالية اللامتناهية، ولكنه يظهر أو يغترب بحسب وعي الإنسان به، نتيجة الشعور والذائقة لديه، وهو ما يسمى بالوعي الجمالي، إذ ينعكس هذا الوعي الجمالي على سلوك الفرد والمجتمع، ويتجلى في مشاعرهم وأحاسيسهم نحو الجمال، وأيضاً في أساليب تعبيرهم عن هذا الجمال. ويصبح الوعي الجمالي مكوناً أساسياً من مكونات البناء الروحي والقيمي للثقافة الإنسانية، وهو ما يميز ثقافة مجتمعية عن غيرها. إن «ثقافة الجمال» تُعد الإطار الأكثر أهمية الذي يرشد السلوك الإنساني نحو إدراك الجمال، والاستمتاع به، حيث تتشكل الذائقة الجمالية للإنسان. ويمنحه القدرة على اكتشاف الجمال الكامن في ظواهر الكون والأشياء والأشخاص، وإذا كان وعي الفرد وقدرته على اكتشاف الجمال - في كل ما يحيط به، وفي مختلف تفاصيل الحياة اليومية - يمثلان منبع الشعور بالجمال وتذوقه، وفي بناء الوعي الجمالي، وإذا كان الوعي الجمالي موضوعاً يتم طرحه فلسفياً بعمق، وثقافياً في جمالية الشعر والسرد القصصي، وفي مواضيع كثيرة، فإن الخطاب الديني وباعتباره فهماً للنص المقدس معنيٌّ بالوعي الجمالي أكثر من غيره فإذا كان الدين لله (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) [سورة الزمر:3] فإن الله هو الحب والجمال، كما وصفه بذلك سيد العارفين به رسوله وحبيبه محمد - صلى الله عليه وسلم - حين يقول: (إن الله جميل يحب الجمال). إن الخطاب ليس إلا إعلاناً لما يتشكل في العقل أو في النفس أو فيهما جميعاً من المفاهيم ويتمظهر عنهما من السلوك. وهو - أي الخطاب - حين يكون لطيفاً جميلاً جاذباً فإنه يوحي بجمال النفس والعقل وسكونهما، والعكس بالعكس تماماً. والمتدين بخطابه هو من يحمل مسؤولية الوعي الجمالي في خطابه وما يصنعه من تأثير في المتلقي له من مستمع وقارئ. على أن الخطاب الديني لا يتوقف نوعه عند خطبة جمعة أو محاضرة أو كتاب ديني فحسب، بل يشمل ذلك وأكثر كالتعليم الديني في المدارس والجامعات وفي البيوت. إن افتقاد الكثير من الخطابات الدينية للوعي الجمالي صنع تأثيراً سلبياً مرتداً على السلوك الإنساني وعلى الخطاب ذاته، فالفظاظة والعنف الخطابي يخلقان سلوك النفرة والابتعاد، ولذا جاء التوجيه الرباني للنبي - صلى الله عليه وسلم - بلين الخطاب وبيان العاقبة الافتراضية عن غياب اللين، فقال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [سورة آل عمران:159]. ومن هذا المنطلق يجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمال سلوك الحياة كلها، فيقول: (إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لا تموت حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله، فإن الله لا يدرك ما عنده إلا بطاعته)، فقوله (وأجملوا في الطلب)، أي اسلكوا الطرق الجميلة في الطلب، وهذا السلوك لن يحصل ما لم يكن لدى الإنسان وعي يجعله يستشعر الجمال في الحياة. والخطاب الديني مسؤول عن أن يخلق هذا الوعي في الناس ويجعل نظرتهم للحياة جميلة، فالدنيا ليس قبيحة وآثمة! بل هي في منظور صاحب الجمال البشري الأعظم - صلى الله عليه وسلم - (حلوة خضرة). وأمام كل ذلك لا بد من إدراكٍ يأتي على كل المستويات، لأهمية هذا الموضوع، ولا بد من تناوله بالدراسة والبحث، ثم الحوار والتداول، ثم السلوك العملي، ولذلك فإنني أدعو وزارة الشؤون الإسلامية والجامعات العلمية ولاسيما الإسلامية، ووزارة التربية والتعليم لعقد ورش عمل جادة لمناقشة أبعاد الموضوع وكيف يمكن خلق منظومة متكاملة لتشكل الخطاب الديني بالوعي الجمالي في المدرسة والجامعة والجامع والبيت. كما أدعو مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني إلى عقد لقاءات حوارية يستمع من خلالها إلى رأي المواطن وانطباعاته وأفكاره حول هذا الموضوع، وبلورة ما يصل إليه الحوار إلى مشروع مقترح يتم رفعه إلى جهات القرار حتى يأخذ طريقه التشريعي ضمن أخلاقيات المواطن والوطن، لأننا - وبكل شفافية - نطمح إلى إرساء مجموعة من القيم في مجتمعنا، وسيكون هذا الموضوع مفتاحها الأهم نحو وعي جمالي في كل الخطابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وعندها تختفي مظاهر العنف الخطابي والتشنج اللفظي، العدوانية والكراهية والظلم. ونحكي للعالم واقعنا الجديد في منظومة أخلاقية تلهم الآخرين معنى الحياة وتعلن أفعالنا وأقوالنا أننا نعكس حقيقتنا الدينية المقدسة الحب والجمال، وسنرى ذلك يتحقق بإذن الله، فنحن والعالم أجمع نتشوف إلى سلام نعيش فيه حاضرنا ونستشرف به مستقبلنا، وهو ما نؤمله بالله ربنا عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير. ايلاف