فلم تتحمل آلام فراقه.. وماتت بعده بخمسة أشهر.. مشوار عمره الذي امتد96 عاما قضي نصفه في ضاحية هادئة في مدينة لوس انجيليس الأمريكية, لا يفعل شيئا طوال أيام الأسبوع سوي القراءة والكتابة والتأمل.. إنه المؤرخ ويل ديورانت الذي حرص علي مزاولة رياضة المشي كل يوم مسافة ميل كامل. قصة حياته ليست هي المهمة الآن.. بل قصة البشرية التي قرر في لحظة محورية أن يكتبها حين كان في جولة في دول الشرق.. وفي سوريا سقط مريضا.. وهو طريح الفراش تذكر أن المؤرخ الانجليزي هنري توماس الذي جاء إلي سوريا قبله بنحو نصف قرن مرض أيضا ومات في دمشق قبل أن يشرع في كتابه قصة الحضارة.. عندئذ قرر ديورانت أن ينفذ ما عجز المؤرخ هنري عن تنفيذه. ديورانت.. بعد أن تجول بين العصور.. القديم منها والحديث.. وبعد أن وضع اللمسات الأخيرة لكتابه الضخم قصة الحضارة.. سأل نفسه: ألم تجد في عملك هذا سوي التسلي بسرد قصص صعود وسقوط الدول والحضارات.. وظهور واختفاء الأفكار والنظريات.. وبدايات ونهايات الملوك والحكام؟.. ألم تساعدك قراءة التاريخ علي التنبؤ بأفعال البشر وعلي معرفة مصير الأمم؟.. وحين شرع في الاجابة عن هذه الأسئلة وغيرها.. كان كتابه الصغير الذي حمل عنوان دروس التاريخ.. والذي قد تساعد قراءته علي فهم أحوالنا الحاضرة.. وعلي حمايتنا من صدمة المفاجأة. ديورانت خلال بحثه في الأوراق القديمة اكتشف أن الحكام لم يضعوا سعادة شعوبهم في قائمة اهتماماتهم إلا نادرا.. كما اكتشف أن الديمقراطية هي أصعب أشكال الحكم.. وبالرغم من أن مميزاتها تفوق عيوبها إلا أن نجاحها غير مضمون إذا تحول الجدل السياسي إلي كراهية عمياء.. أما الاقتصاد القائم علي الحرية فقد يفتح الباب مرة أخري أمام الدكتاتورية إذا عجز عن توزيع الثروة بالعدل وجاء أي شخص واستطاع أن يعد الجميع بحياة أفضل. ديورانت.. وهو يري بحور الدماء التي أريقت خلال الصراعات التي اندلعت في جميع العصور.. تأكد من أن حلم السلام هو الحلم المستحيل الذي سيظل للأبد عالقا في خيال الانسان.. كما تأكد أيضا من صحة العبارة التي قالها الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن وهي: أنه من الصعب عليك استغفال الناس طوال الوقت.. لكن لا تنس هكذا يقول لك ديورانت أنك أيضا تستطيع أن تستغفل منهم ما يكفي لأن تحكم بلدا كبيرا. ديورانت.. وهو يرصد أحداث العنف التي تنشب عقب اشتعال الثورات.. اقتنع بأن قطع الصلة علي نحو حاد بالماضي يعني ملاطفة الجنون.. فسلامة عقل الفرد تكمن في استمرار ذكرياته.. وسلامة عقل الجماعة يكمن في استمرار تقاليدها. وتبقي عبارة.. قالها ديورانت.. تحتاج إلي أن نتأملها علي مهل.. ثم نحفظها في الذاكرة.. لنستدعيها كلما تعقدت الأمور وتلبدت السماء بالغيوم.. والعبارة هي: لا يوجد في التاريخ أوضح من اتخاذ الثائرين الناجحين ذات الطرق التي درجوا علي إدانتها عند النظام المطاح به!. وهكذا مات ديورانت وهو يدرك أن البشرية تنام في حصة التاريخ.