تتجه مصر بخطوات مرتبكة نحو الاستفتاء على أول دستور لها بعد الثورة، وسط حالة من الانقسام والغضب الشعبي، لعبت جماعة الإخوان المسلمين وحلفاؤها من قوى الإسلام السياسي دوراً كبيراً في إشعاله على مدار الأسبوعين الماضيين، ليتحول موعد الاستفتاء من يوم للبهجة، في تاريخ شعب دفع ثمناً فادحاً من أجل الوصول إلى تلك اللحظة الفاصلة في تاريخه، إلى ما يشبه "مقامرة كبرى" بين طرفين، أحدهما في موقع سلطة باتت تنظر إلى الدستور باعتباره فرصتها الأخيرة، للتمكن من مفاصل دولة ظلت تتعامل معها لعقود باعتبارها "جماعة غير شرعية"، منذ قرار حل "جماعة الإخوان المسلمين" في الثامن من ديسمبر/كانون الأول عام ،1948 وبين قوى سياسية وثورية تنظر إلى مسودة الدستور النهائية التي انتهت إليها الجمعية التأسيسية قبل نحو أسبوعين، باعتبارها تكرس لاستبداد الجماعة، وتفتح الطريق أمام هيمنتها على أكبر دولة في المنطقة، ومصادرة المستقبل . عاشت مصر على مدار الأسبوع الماضي أياماً عاصفة، استعادت خلالها أجواء الأيام الأولى لثورة الخامس والعشرين من يناير، عندما تدفقت الحشود إلى الشوارع والميادين، للمطالبة بإسقاط نظام مبارك، وإن احتوى المشهد على تغيير درامي في المواقف، فرفاق الأمس الذين كانوا شركاء في مسيرات الغضب والدم، صاروا غرماء اليوم، وصاحب اللحية الخفيفة الذي كان يحمي ظهر أخيه في المواجهات مع أجهزة أمن مبارك، ويتلقى طلقات الخرطوش بصدره دفاعاً عنه في الميدان، صار هو من يطعن شقيقه اليوم من الخلف! على هذا النحو من العبث توالت المشاهد الدامية في مصر على مدار الأيام العشرة الأخيرة، وإن ظل أكثرها عبثاً مشهد الدم الذي سال على بعد أمتار قليلة من القصر الرئاسي، ودهمت رائحته أول رئيس منتخب للبلاد في مكتبه، قبل أن يتحول هذا الدم الحرام إلى وسيلة للمزايدة السياسية من طرفين، بلغت ذروتها على لسان أحد المتشنجين من رافعي لواء الشرعية والشريعة، عندما وقف يخطب في حشد أمامه، غير عابئ بخطورة ما يجري من حوله: "شهداؤنا في الجنة، وقتلاهم في النار"! مقايضة يتحمل الرئيس مرسي في نظر كثيرين، المسؤولية كاملة عن تلك الحالة التي تعيشها البلاد، منذ تجاهل في ما يشبه العمد هيمنة تيار بعينه على الجمعية التأسيسية للدستور، ولم يفرض حماية مطلوبة على ممثلي القوى المدنية التي فشلت على مدار ستة أشهر، في مواجهة تداعيات تلك الهيمنة، قبل أن تعلن في نهاية المطاف انسحابها، اعتراضاً على تجاهل قوى الإسلام السياسي جميع مقترحاتها في ما يتعلق بنصوص الأزمة في مسودة الدستور، وعلى أسلوب إدارة الحوار داخل التأسيسية، قبل أن يفاجئ الرئيس الجميع بإصداره إعلانه الدستوري الأول في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي الذي حصن به الجمعية التأسيسية من الحل، وناصب المؤسسة القضائية خصومة مجانية بتحصين جميع قراراته من الطعن عليها، ليشعل غضب قطاعات كبيرة من المصريين، باتوا ينظرون إليه اليوم بتوجس شديد، باعتباره ممثلاً لجماعة بعينها، أكثر من كونه رئيساً للجميع . قايض الرئيس مرسي على مدار الأسابيع الماضية إقرار المصريين الدستور الجديد، على ما تتضمنه نصوص مسودته النهائية من عوار واضح، بإلغاء سلطاته المطلقة التي حصّن بها قراراته استناداً إلى إعلان نوفمبر، وهي المقايضة التي ترجمت موجة عدم الارتياح التي ضربت الشارع المصري في صورة تلك الحشود الغاضبة، والتي انطلقت باتجاه قصر الاتحادية، مطالبة في البداية بإسقاط الإعلان الدستوري وحل الجمعية التأسيسية، قبل أن ترفع مشاهد الدم التي تسبب فيها هجوم ميليشيات الجماعة على المتظاهرين السلميين سقفَ المطالب، إلى المطالبة برحيل الرئيس وحل جماعته وميليشياتها شبه العسكرية، وإسقاط نظامه برمته . على مدار نحو خمسة أشهر ظل الرئيس محمد مرسي في نظر كثير من المصريين، أقرب ما يكون إلى "مشروع رئيس"، وتسببت قراراته المتضاربة والمتأخرة دائماً، بل والمتقاطعة مع مطالب الشارع المحتقن بالغضب، في ترسيخ قناعة لدى قطاع واسع بأن "مكتب الإرشاد" هو الذي يحكم البلاد، وأن الرئيس ليس أكثر من مجرد واجهة، قبل أن تثبت الأيام الأخيرة صحة ذلك، عندما وقف الرئيس قبل نحو أسبوعين، أمام القصر الرئاسي ليخطب في حشد من مؤيديه، متحدثاً عن مؤامرات تحاك في الداخل والخارج لإسقاط شرعيته، وساخراً من القوى المعارضة له التي قدرها بما لا يزيد على خمسة آلاف على أقصى تقدير، قبل أن يفاجأ بعدها بأيام بحشود هادرة تحاصر القصر الرئاسي، دفعته إلى الخروج من البوابات الخلفية للقصر تجنباً لصدام متوقع بين حرسه الخاص والمتظاهرين الغاضبين . لم تتوقف أخطاء الرئيس مرسي عند حد تجاهل مطالب القوى المدنية بضرورة إلغاء إعلان نوفمبر، والوصول إلى توافق وطني عام على نصوص المسودة النهائية للدستور، وهو التجاهل الذي بلغ ذروته بإقرار الجمعية التأسيسية النصوص في ليلة واحدة، فيما بدا وكأنه خطوة استباقية لحكم كان من المتوقع صدوره عن المحكمة الدستورية العليا بحل الجمعية التأسيسية، لكنه تجاوز ذلك إلى حد إطلاق يد الجماعة التي دخلت على خط الأزمة على نحو افتقد الحكمة، بمحاصرة مقر المحكمة الدستورية العليا، ومنع قضاتها من الدخول، في تمهيد واضح للأجواء، قبل أن يخرج الرئيس في اليوم الثاني ليعلن طرح الدستور للاستفتاء . "المرشد" إلى العلن على مدار الأسبوعين الماضيين، تعرضت جماعة الإخوان المسلمين إلى ما يشبه الحصار الاجتماعي، حيث تعرضت مقراتها في العديد من المحافظات لاعتداءات متكررة في ردة فعل غاضبة من قبل قوى اجتماعية عدة، قبل أن يصل الحريق إلى مقرها الرئيس في المقطم، في مشهد بدا قريباً جداً مما شهده مقرها الرئيس في الخمسينات من القرن الماضي، عندما أحرقه متظاهرون غاضبون احتجاجاً على مفاوضات دخلتها الجماعة حينذاك مع قوات الاحتلال الإنجليزي، من أجل تسلم السلطة في البلاد مقابل تسليم قناة السويس! وهو ما دفع الجماعة خلال الأسبوع الماضي إلى التكشير عن أنيابها، وقد بدا ذلك واضحاً في الظهور المكثف لميليشياتها في العديد من الاشتباكات التي جرت في محيط قصر الاتحادية، وهي الاشتباكات التي خلفت وراءها ثمانية من القتلى ومئات المصابين، قبل أن تنزل "أفيال الجماعة" من المقطم، ليتحدث المرشد العام الدكتور محمد بديع في أول ظهور سياسي علني، بمؤتمر نظمته جبهة ائتلاف القوى الإسلامية التي تضم نحو 13 حزباً وفصيلاً سلفياً بزعامة الإخوان، وقد وجه المرشد العام في المؤتمر انتقادات عنيفة لمن وصفهم بالقوى المعارضة، لم تخل من اتهامات بالاستبداد والإجرام والفساد، قبل أن يزيد نائبه خيرت الشاطر على ذلك ما كرره بعده الرئيس مرسي، من حديث عن "مؤامرة إقليمية تحاك ضد الشرعية في مصر، وتستهدف إسقاط الرئيس ووأد التجربة الديمقراطية الوليدة" . غير أن لهجة المرشد العام الحادة ونائبه من بعده، كشفت على نحو صريح عن ارتباك كبير يبدو أنه قد أصاب الجماعة بأكثر مما أصاب الرئيس، وهو الارتباك الذي دفع المرشد بديع إلى الرد على ما يتردد في الشارع المصري الآن، من سيطرة مكتب الإرشاد على القصر الرئاسي بقوله: إن من يحكم مصر هو الرئيس المنتخب، متخذاً من الاعتداء على مكتبه بالمقطم دليلاً، قبل أن يذهب إلى الدفاع عن الجماعة وإنكار جميع التهم المنسوبة إليها بالاعتداء على المتظاهرين في محيط الاتحادية، مطالبا من لديهم أدلة بتقديمها إلى الجهات المختصة . لم تخل لهجة المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين من تهديد واضح، عندما وصف التجربة التي عاشتها الجماعة على مدار عقود بأنها "كانت مُرة ولن تتكرر"، مؤكداً أن جماعته لن تقف مكتوفة الأيدي بعد اليوم، وأنها سوف تدافع عن نفسها "وعن ثورة مصر ودستورها مهما كانت التضحيات"، وهو ما جاء متسقاً مع تصريحات أطلقتها رموز في الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح، أحد أبرز التنظيمات الفرعية للجماعة، عندما قالت إن الجبهة على استعداد لتقديم مليون شهيد إذا ما تطلب الأمر ذلك! يتساءل كثيرون في مصر اليوم عن السر الكامن وراء إصرار الرئيس ومن خلفه جماعة الإخوان المسلمين على تمرير الدستور "مهما كانت التضحيات"، وما يثير الدهشة في الأمر هو ذلك التشابه الذي يصل إلى حد التطابق، بين ما سعى إليه الرئيس وما أعلنته صراحة، من تخيير الشعب بين الحرب الأهلية أو التغيير من خلال صندوق الانتخابات، وهو ما تجلى في الاتهامات التي وجهها المرشد بديع إلى من يرفضون الدستور ويطالبون بتعديله قبل الاستفتاء عليه، بأنهم يتحركون وفق "مصالح واتجاهات وأموال لا تريد لمصر الخير" . على مدار الأيام الأخيرة التي استبقت استحقاق الاستفتاء، تواصلت اتهامات جماعة الإخوان المسلمين لمعارضيها بالعمالة وتطاير شرر اتهامات التخوين، فيما حشود المتظاهرين تملأ الميادين والشوارع، ليس فحسب احتجاجاً على هيمنة لا تخطئها عين للجماعة على القصر الرئاسي، وإنما تخوف من مصادرة للمستقبل تحملها نصوص الدستور الجديد . مناورة جديدة حتى مناورة القصر الرئاسي الأخيرة باستبدال الإعلان الدستوري الجديد بالآخر الصادر في نوفمبر الماضي، لم تنجح في إطفاء حريق الشوارع، إذ بدا المشهد في مصر أقرب ما يكون إلى مسرح العبث، وبدت معه الأزمة وقد استحكمت حلقاتها، في ظل مقايضة صريحة على مسودة دستور مشوه، بات تمريره مرتبطاً على نحو لافت بتعميق الأزمة لا بحلّها، وهي حالة حسبما يرى كثير من المراقبين ربما تدفع البلاد نحو صدامات أخطر . بدا الإعلان الصادر منتصف ليل السبت الماضي، أشبه ما يكون ب"مناورة سياسية" في مواجهة الحشود الغاضبة التي زحفت على القصر الرئاسي قبل أيام، لكنها كشفت في الوقت ذاته، مدى الارتباك الحاصل في مؤسسة الرئاسة، إذ أبقى الإعلان على الآثار المترتبة على سابقه، وفي مقدمتها الإبقاء على النائب العام الجديد، فضلاً عن الدعوة إلى الاستفتاء على الدستور في الموعد المقرر سلفاً، وهو ما اعتبره كثير من القوى السياسية التي تطالب بإسقاط الإعلان الدستوري الديكتاتوري بكل آثاره، وتأجيل الاستفتاء على مقترح الدستور لمدة محددة يتم خلالها الوصول إلى مشروع دستور توافقي يليق بمصر الثورة، استكمالاً من جماعة الإخوان المسلمين لمسلسل الخداع باسم الشرعية والقانون . يبدو أداء القصر الرئاسي في مصر اليوم أقرب ما يكون إلى "المقامرة" بعدما ألقى الرئيس محمد مرسي، ومن خلفه جماعة الإخوان المسلمين بكل أوراق اللعبة على الطاولة، ففي الوقت الذي تستمر فيه الجماعة في المقايضة على المستقبل بالدستور الجديد، وتغلق مؤسسة الرئاسة من خلفها آذانها عن صرخات القوى السياسية، وحقائق التاريخ التي تقول بأن الدساتير لا تصنع بالغلبة وخلط الأوراق بين الشرعية والشريعة، تمضي موجات الغضب إلى آخر مدى في محاولة لوقف قطار دولة مستبدة جديدة ترتدي لباس الدين، غادر المحطة ويلوي على المضي قدماً في طريقه مهما كلفه الأمر من تضحيات .