قراءة هشام أصلان هذا كتاب مهم. فيه من العمق، ما لا يقف عند النقد أو البحث فى عالم محفوظ، لأن الأمر هنا هو ترسيخ لتبادلية العلاقة بين مُرسل الإبداع ومُتلقيه، باختلاف الوعى عند هذا المتلقى أو ذاك، وظاهرة اكتمال مشروع أدبى إلى درجة تسمح لمفكر مثل إبراهيم فتحى برصد فلسفة الإنسانية بأكملها وتطورها، وليس فقط تطور المجتمع الذى صاغه وجسده محفوظ، فيقترب الكتاب من شواطئ الفكر والفلسفة والتأمل بأكثر مما يقترب إلى شاطئ النقد الأدبى التقليدى، ويصير إبداعا موازيا. ليس هذا فحسب، فالناقد حسين حمودة حكى إن محفوظ نفسه تحدث إليه عما جاء فى الكتاب قائلا إنه أهم ما كتب عنه رغم كثرة الدراسات التى تناولته. الكتاب هو «العالم الروائى عند نجيب محفوظ»، الصادر مؤخرا بمكتبة الأسرة، لإبراهيم فتحى، أحد أهم نقاد ومفكرى الستينيات، والمناضل السياسى، الذى يتمتع بقدرة ذهنية ساعدته على استكمال مهمته فى الحياة، والتى كان من الممكن ألا تستكمل بعد ما تعرض له من تعذيب خيالى فى سجون السياسة. هنا مساعدة على فهم حقيقة أن الجدل الذى أحدثته رواية «أولاد حارتنا»، على سبيل المثال، هو الأبسط والأكثر سطحية أمام الجدل الذى يمكن حدوثه لو تأمل الظلاميون، أو حتى فهموا دون تأمل، ما وراء الأدب المحفوظى، ببساطة أكثر لو قرأوا كتاب إبراهيم فتحى، الذى لا يأتى بمستوى القارئ العادى. تأمل التساؤلات التى يطرحها فتحى فى البداية: «هل تشكل المرحلة الأخيرة من إنتاج محفوظ، التى سميت بالمرحلة الفلسفية أو الفكرية، انقطاعا فى استمرار عالمه الروائى القديم؟، هل يمكن اعتبارها تطورا جديدا يقدم رموزا لمأساة الإنسان فى العصر الحديث، هل كان عالمه القديم تعبيرا عن علاقات راسخة مستقرة مرصوفة الشوارع، تزرعه شخصيات ترتدى أخلاقيات قاطعة التحدد، وتدون معالم حياتها النفسية فى بطاقاتها الشخصية، بينما أصبح عالمه الجديد تعبيرا عن وضع انتقالى يملؤه التطفل للنائمين يتثاءبون أسئلتهم عن معنى الحياة؟». تساؤلات، تذكرك ببعض أفكار كونديرا فى كتابه «فن الرواية»، ترجمة بدر الدين عرودكى، عن كيفية مصاحبة الآداب والفنون للإنسان «منذ بداية الأزمنة الحديثة»، فتساعده على التوازن النفسى، والصمود أمام قوى التقنية والسياسة التى تجاوزته واعتبرته مجرد شىء بسيط بعدما كان «سيد الطبيعة ومالكها فى سالف الزمن». فنجد الكتاب يتعامل مع محفوظ شأن تعامل كونديرا فى محاولته لفهم سرفانتس وتولستوى وكافكا وعلاقتهم بفلسفة ديكارت وغيره من الفلاسفة، وولادة عالم الأزمنة الحديثة والرواية مع: «خروج دونى كيشوت من بيته غير قادر على تعرف العالم». تفيق من شرودك مبهورا بما يقوله فتحى عن فكرة التكاثر واستمرار البشرية عند محفوظ: «نحن بصدد صورة شاملة للعلم والتاريخ، أبطالها البذور الأولى. وهى صورة لا تخلو من مثاليات وتضحيات مبرقشة الألوان، نراها ممتدة على طول الروايات التى تأخذ، فى أحد محاور الاستمرار، تتبعا لشجرة أنساب عاشور الناجى فى الحرافيش أو السيد أحمد عبدالجواد فى الثلاثية». ومن النقاط المهمة التى يلفت لها الكاتب، أن حديث محفوظ عن «سلالات ممتازة تحمل موروثات أو جراثيم وراثية تجعلها قادرة على البقاء، أو سلالات ضامرة، أو حتى جمال الروح الذى هو هبة من الطبيعة البيولوجية»، هذا الحديث العلمى البحت، يأتى فى رواياته على لسان شخوص عادية «وليس على لسان عالم بيولوجى أو على لسان آرثر شوبنهاور». هذه النقطة، تحيلنا بدورها إلى أهمية الصنعة، وتجليها فى تحقيق البناء الروائى، فهو، أى محفوظ، يحسن، مثلا، اختيار الآباء الذى يرث عنهم الفرد طبيعته البيولوجية: «قد يرث جسما شاهقا، أو ملامح وجه روحى أكثر جمالا يعلو إلى مستوى القمم. فعاشور الناجى ولد عملاقا، وفيه بذور الجمال الخلقى، وتزوج زينب وأنجب منها حسب الله ورزق الله وهبة الله، ولم يرث أحدهم عملقة أبيه»، ولكن سرعان ما يلتقط فتحى حكمة هذا التطور، فهؤلاء الذين لم يرثوا هذه الصفات: «هم جميعا أوعية تصدعت فى طريق البقاء وانقرضت بلا أثر، على العكس من شمس الدين ولى عهده الذى أنجبه من ساقية البوظة». وبالعودة لمسألة الزمن وعلاقته بالرواية، يلملم إبراهيم فتحى أطراف المشكلة: «فالاتجاهات الحديثة فى الرواية تنطلق من أن العالم فى أيامنا الحاضرة لم يعد هو العالم الذى كانت تصوره الرواية التقليدية»، ولا ينفصل حديثه عن الفكرة الأشمل التى تكلمنا عنها، فيكمل: «تزعم تلك الاتجاهات أنها تقوم بزلزال فى أرض الرواية مماثل للزلزال الذى قوض أركان العالم القديم، ولم يعد الراوى اللا شخصى، قادرا على مواصلة أداء دوره فى عالم يبدو غريبا على نفسه». وبالطبع لم يكن الحل هو التخلص من البناء تماما، كيفما أعده البعض أحد أشكال الكتابة الجديدة، ولكن أصبح على الرواية «أن تكتشف وسائل تجريبية جديدة، مثل المونولوج الداخلى فى الحاضر المستمر، وهو زمان جزئى يسمح بتداخل الأزمنة، وكان محفوظ مولع به إلى أبعد الحدود». يتكئ إبراهيم فتحى فى هذه النقطة على رواية «ثرثرة فوق النيل»، مشيرا إلى بعض الأوصاف، مثل: «أغصان الجازورينا والأكاسيا، الأسقف المصنوعة من الأخشاب وسعف النخيل، المائدة الصغيرة الملتصقة بالجدار الأيمن»، أو عبارات من قبيل: «يأكل قطعة من الكوستليتة ممسكا بطرف الريشة». يرى فتحى، أن هذه الأوصاف قد لا تكون لها وظيفة تعبيرية حقيقية، ولكنها تقفز بجانب «السطور فى كتب المكتبة على ظهر العوامة، بوصفها دلالات وانطباعات حسية، فتشكل جزءا من معنى الأحداث». ربما أن اقتباس فقرات من أى كتاب عند مراجعته هو من الأمور غير المحبذة، لكنك لا تستطيع الحديث عن قضايا من هذا النوع دون الإشارة إلى بعضها حتى لا تصبح القراءة شكلا من السيريالية. ويخشى الواحد أن يترك لنفسه العنان فلا يستطيع لمّه مرة أخرى، خاصة وأن هذا الكتاب مثله مثل صندوق مُحزّم بإحكام، تفتحه فتندفع منه الأفكار، ويصبح من الصعب رصها داخله مرة أخرى، لكنها تكون قد أحاطتك، قبل أن تسكنك وتلعب فى تكوينك، وتغير شكل التلقى لديك.