يكاد يكون الحديث عن ماركيز بعد وفاته مستحيلاً، إذ ما الذي يمكن أن يتحدث به كاتب يجلس في مكتبه وأمام شاشة إلكترونية، يستدعي كل ما عرفه أو قرأه لماركيز، وكأن حجم ماركيز ومنجزه الروائي والسردي بصورة عامة يتفلت ولا يمكن الإمساك به من زاوية واحدة . وكذلك هي حال ماركيز نفسه، فهذا الروائي ذو الشنب الكث والحاجبين العريضين، وتلك النظرة الهادئة والحادة معاً، لم ينفصل يوماً عن روائعه الروائية، حتى بات مجرد مرور جملة "مئة عام" قبل أن نكمل، يستحضر في اللاوعي شخصية ماركيز وحضوره المذهل، وكأنه في كل رواية كتبها، كان هو الذي يقرأ علينا فصولها، فصوته وتعابير وجهه ترافق صفحات أعماله، وتروي لنا حكاياته وتجاربه التي لم تنضب حتى بعد وفاته . ربما يكون عدد المقالات والدراسات التي تناولت تجربة ماركيز الفذة، يصل إلى الآلاف، وربما لو قمنا بعدّ الصفحات التي كتبت حوله وحول أعماله المسرحية لتجاوز الرقم السبع خانات عددية، وكأن الكتّاب والنقاد ظلوا طوال مسيرته الإبداعية يبحثون عما لم يكتب، ويشرعون في الكتابة والبحث فيه . لذلك ليس غريباً أن تكون نُشرت مقالات عن أقلام، والورق الذي يكتب عليه ماركيز، وليس غريباً أن تكون مقالات عدة كتبت عن خلوته الكتابية والآلة الطابعة التي ظلت ترافقه، وأنواع المشروبات التي يفضلها، والمأكولات، وعاداته الغريبة، وعلاقته مع زوجته، حتى شكل وأنواع القمصان التي يفضلها . يمكن أنه بات من غير المجدي القول: ماركيز "الحاصل على نوبل" وصاحب "مئة عام من العزلة"، و"الحب في زمن الكوليرا"، صاحب "خريف البطريرك"، يشكل رحيله خسارة لا يمكن قياس حجمها، فهو يكاد يكون ترك في قلب كل عاشق للرواية هوة سحيقة ربما لن يملؤها روائي آخر . أكاد أجزم أن الصمت كان سيعبر أكثر من كل الكلام الذي سيسيل حبره صباح اليوم، ليملأ صفحات الجرائد والمجلات، وسيعبر أكثر كذلك، من مئات التقارير الإخبارية المصورة التي ستجول فيها الكاميرا بحزن على معالم "مكسيكو سيتي" مصورة جنائزية المدينة التي ترتسم على شوارعها، وأزقتها، وأبواب البيوت ونوافذها، وكأن المدينة كلها تقول: رحل "غابو" . ربما علينا نحن الذين نبعد عن ماركيز ثقافة ومكاناً والذين تفصلنا بلدان كثيرة عنه، علينا أن نحسد أولئك الذين سيتحلقون حول جثمانه، ويرون الورد الذي يؤطر التابوت ويفيض به، وعلينا أن نحسد أولئك الذين سيدمعون وهم يشعلون النار بجثمانه في مراسم خاصة، وكأنهم يستدعون شخصيات رواياته الواحدة تلو الأخرى، لتشاركهم البكاء . علينا أن نحسدهم لأن هذا الفصل من رواية حياته لم يكتبه ماركيز، بل تركه لمحبيه كي يعيشوه، فهو الفصل الذي سيرويه أولئك بعد سنين أمام أحفادهم، وهم يصحبونهم في جولة داخل "مكسيكو سيتي" يظهر فيها نصب تذكاري من الرخام أو البرونز لماركيز ويقولون لهم: ماركيز لم يمت إنه مازال يتنفس في رواياته . محمد أبو عرب [email protected] الخليج الامارتية