ملك يساري ونظام يميني!ينسب الى العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني قوله، في لقاء ضمَّه بنشطاء يساريين أردنيين، إنَّه يساري في الصحة والتعليم والبيئة ويميني في ما يتعلق بالجيش والأمن! قد يكون الملك، المنخرط هذه الأيام في لقاءات شعبية أردنية غير مسبوقة، قال ما أنسبه إليه (على ذمة ما كتبه بعض حاضري اللقاء) بصيغة مختلفة بعض الشيء غير أن مضمونه المتناقض يظل واحداً، فكيف يمكن أن يكون رأس الدولة يسارياً في خيار ويمينياً في خيار آخر، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالهوية الاجتماعية والاقتصادية للنظام؟ كيف تتبدى هذه 'اليسارية' في نظام قائم على اطلاق 'قوى السوق' الجشعة في الحياة الاقتصادية للبلاد، وما هو نوع هذه 'اليسارية' الملتحقة، ذيلياً، في ركاب المشاريع الامبريالية سياسةً واقتصاداً وأمناً؟ هذا، كما نرى، لا يستقيم. اليساري يساري على طول الخط واليميني يميني على طول الخط. اليسار، كخيار سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي، لا يلتقي باليمين. إنهما أشبه بخطي سكة حديد لا يلتقيان إلا.. في كارثة! لن نحمَّل الملك كلاما قاله على سبيل مجاملة شخوص اللقاء وجوِّه أكثر مما يحتمل. فمن الواضح أنه ساير 'جوَّ' تلك الجلسة وانساق معه وأعطى الحاضرين ما يرغبون في سماعه ولكنه ليس من ذلك الجوّ 'اليساري' ولن يكون انطلاقاً من طبيعة المصالح التي يمثلها، كما أنَّ هذا ليس هو المهم في ما يعيشه الأردن اليوم من حراكات متواصلة واحتقانات خانقة وانتظارات مقلقة. ليس المهم ما يقوله الملك في الجلسات والحوارات، الكثيرة هذه الأيام، ولكن ما هو ماضٍ فيه ومصرٌّ عليه من خيارات لا تحقق حتى الحد الأدنى مما يتحدث عنه، هو شخصياً، من اصلاح. فما الذي حدث، على أرض الواقع، منذ أن بدأ الاردنيون التحرك للمطالبة باصلاح نظامهم؟ أربع أو خمس حكومات (نسيت عددها في الواقع) متعاقبة؟! قانون انتخابي أعرج؟! بضعة قوانين (لن أخوض فيها) تبدو شكلاً أنها تفصل بين السلطات وتحدُّ من الحكم القروسطيّ المطلق غير أنها ليست كذلك فعلا. فلو كانت تلك القوانين والاجراءات إصلاحية، بالمعنى العميق للكلمة، لظهر أثرها على الحياة الاردنية الكئيبة على غير صعيد. كل الاقتراحات التي تقدَّمت بها هيئات مدنية ومؤسسات بحث وقوى سياسية وشخصيات وطنية لاصلاح النظام في الاردن نُحّيَت، على يد حواة النظام وقوى شدِّه العكسي، جانباً أو تمَّ مسخها بحيث انقلبت الى عكسها. ومن المفيد القول إن تلك المقترحات لم تصل، قط، حدَّ تجريد الملك من صلاحياته وتحويله ملكاً على الطريقة البريطانية.. ومع ذلك ضُربَ بها عرض الحائط. وليس أبلغ على انسداد آفاق الاصلاح في الاردن من الاستقالة غير المعهودة التي تقدَّم بها رئيس الوزارء الأسبق عون الخصاونة بعدما تأكد، بما لا يدع مجالاً للشك، أن لا أمكانية للقيام بعبء الولاية العامة (رغم الوعود التي قيل إنها قطعت له على هذا الصعيد) في ظل حكومة الظلِّ القوية التي تحكم البلاد وتسيرها سواء من مكاتب الديوان الملكي أو من مقرّ المخابرات العامة. كان ينبغي للجميع أن يعلموا، بعد واقعة الخصاونة، أنَّ 'قوى الشدِّ العكسي' لن تقبل بتقدُّم مسيرة الاصلاح طوعاً. لن تشعر، من تلقاء نفسها، بفداحة الأزمة التي تمرُّ بها البلاد والآفاق الغائمة التي تمضي اليها. فالأمر لا يتعلق بالمشاعر (المنعدمة عندها أصلاً) ولكن بالتمسّك الوقح ب 'مصالح' اقتطعت من قوت الشعب وموارده الضئيلة. ينبغي أن تشعر هذه القوى أن لا خيار لها إلا التسليم بالاصلاح.. أو تقع الكارثة. وهذا لن يحدث ما لم يتصاعد الحراك الجماهيري ويتسع بحيث يشمل قطاعات اجتماعية لم يشملها حتى الآن.. وقد بدأ هذا التطوّر يطل برأسه بفضل قرار رفع أسعار الوقود.. وهو، على الأرجح، سيتواصل في المستقبل القريب مع تصاعد الأزمة المعيشية. ' ' ' التسويف وتمرير الوقت هما المتراس الذي يقف خلفه النظام في مواجهة موجات الغضب الشعبية التي راحت توجِّه سهامها، شيئاً فشيئاً، إلى القصر الملكي وليس إلى الحكومات التي لا تحلُّ ولا تربط. لا سياسة للنظام، المحاصر بانتفاضات الأقليم وثوراته الدموية، إلا هذه السياسة التي قد تصلح تكتيكياً عابرا غير أنها لا تصلح أن تكون استراتيجية لدولة في عالمٍ ثبت، قطعاً، أنه متغيرٌ، وأنه الى مزيد من التغير. فانتظار ما ستسفر عنه العاصفة السورية وما ستستقر عليه الأوضاع المضطربة في مصر ليس من السياسة في شيء. إنه تجميد للاستحقاق. هروب مما يجب عمله اليوم، وهو ممكنٌ ومتيسرٌ، وليس غداً عندما يكون صعباً أو مستحيلاً. فلن يسفر ما يجري في كل من مصر وسورية عن أوضاع سياسية قد تكون في مصلحة النظام حتى لو أخفق الاسلاميون في بسط سيطرتهم على البلدين. التغيرات في هذين البلدين الحاسمين في مصائر المنطقة لا رادَّ لها الى الوراء، وربما شكلت، على أي صورة ستكون، أكثر من مجرد حافز أو ملهم للأردنيين. لا في حالة غلبة 'الاخوان' على الاوضاع في مصر وسورية (بعد سقوط النظام) ولا ميل الأمور هناك لصالح القوى المدنية سيكونان في صالح بقاء الأوضاع في الأردن على حالها. فالتغيرات هذه، أياً كان شكلها أو الصيغة التي ستنتهي إليها، ستنعكس على الأردن. سيجد النظام نفسه أمام ما هرب منه.. ولكن ساعتها قد يكون فات أوان التغيير الطوعي. ' ' ' أعود الى كلام الملك عن يساريته وما راج حول ذلك من أحاديث مطنبة عن ميل محتمل لتحالف بين النظام و'اليسار' في مواجهة 'الأخوان' لأقول إن ذلك لن يحدث (حتى بهذا المعنى الانتهازي) إلا في حدود الصيغ المعهودة من قبل. فليس جديداً على النظام الأردني 'الاستعانة' بخبرات 'اليساريين' الذين سرعان ما يصبحون، كما يقول المثل، ملكيين أكثر من الملك. وكلنا نعرف البؤس العرفي الذي انحط اليه 'يساريون' أردنيون استمالهم النظام اليه. بهذه الحدود لا مشكلة لدى النظام الاردني حيال 'اليسار' و'اليساريين'. هذه هي حدود 'التحالف' الذي طالب به بعض 'اليساريين' الأردنيين ملك البلاد في اللقاءات المشار اليها أعلاه، كأن لسان حالهم يقول: لقد تحالفتم طويلا مع 'الاخوان' في مواجهتنا (أيام العز اليساري) وها هم ينقلبون عليكم فلماذا لا تجربوننا؟ ينسى هؤلاء الذين يراهنون على خيار كهذا أن لا بضاعة لديهم يقدمونها للنظام سوى شطارتهم في الكلام، أما 'الأخوان' فلهم نصيب معلوم، بقوة، من قبل النظام في الشارع.. لكن أهم ما ينسونه هو انعدام قدرتهم (بهذه الخفّة السياسية والجماهيرية المذهلة) على إحداث أدنى تغيير في جوهر النظام، وقصارى ما سيحصلون عليه هو حقيبة أو اثنتان فارغتان في حكومة فارغة. أمام 'يسار' كهذا و'أخوان' مراوغين ينتظرون، هم أيضاً، مآلات الأوضاع في مصر وسورية يواصل النظام هروبه من الاصلاح إلى الأمام.. ولكن السؤال: إلى متى؟