فتحي أبو النصر .. إن الدولة المدنية دولة للدمقرطة وللتسامح وللمساواة في الحقوق والواجبات، كما لحكم المؤسسات ولمنع المواطنين من انتهاك بعضهم بمختلف الذرائع، ما لا يمكن للعصبية الطائفية فيها أن تزدهر أبداً؛ لأنها ليست مع الانحياز لطرف مجتمعي ضد آخر، فيما تتعامل مع المواطنين كمواطنين قبل أي شيء معترفة بهم كأحرار متكافئين ومتساويين، بغض النظر عن هوياتهم الفرعية، ومن هنا لا يمكن في ظل الدولة المدنية أن تتفشى قيم العنف والإقصاء والتحريض والترهيب ولغة السلاح، مثلما لا يمكن لمواطن تطبيق أشكال العقاب على مواطن آخر حسب ما يجري في المجتمعات المتخلفة ذات الدول الطائفية مثلاً، فالدولة المدنية دولة المواطن كمواطن في الأصل بعيداً عن هويته الدينية أو العرقية، وهي لذلك أرقى شكل للدولة توصل له الإنسان بعد صراعات وحروب شتى؛ لأنها دولة تصون كل أعضاء المجتمع بلا استثناء لتمثل مرجعية أساسية لهم كونها أولاً وأخيراً مع انتماء أفراد المجتمع إليها بحكم مواطنتهم لا بحكم عشائرهم أو أديانهم. وللدولة الوطنية المدنية التي تمثل الرهان الآمن الآن الدور الأهم في امتصاص وإزالة التوتر المذهبي أو المناطقي داخل المجتمع. غير أن الدولة المدنية لا ترفض الدين كما يزعم أغلب من يقوم بمناوأتها بقدر ما تعتبره شأناً خاصاً لكل مواطنيها على اختلافهم ووفقاً لحرياتهم مع أهمية أن لا تحض أفكارهم الدينية على الأذى أو الإجرام بالآخرين، رافضة في هذا السياق الاستغلال السياسي للدين بما ينزع عنه قداسته ويحوله إلى مجرد مصالح دنيوية تجلب الإرهاب الفكري لمن يخالف، كما تصيب وحدة المجتمع بالضرر. والثابت أنه لا يمكن للمواطنة المتساوية أن تتحقق كما لا يمكن للمجتمع أن يتطور إلا في ظل الدولة الوطنية المدنية؛ باعتبارها دولة للجميع، أضف إلى أن معيارها الحيوي يقوم على أساس الشفافية في الحكم ومحاسبة الفاسدين دون محاباة. ثم إن الدولة العسكرية دولة داخل الدولة جراء نزعتها الاستبدادية القسرية في السيطرة على السلطات وصبغ حياة المواطن في ظلها بحالة الطوارئ، في حين أنها تبقي الجماعات الأخرى في المجتمع خارج القرار السياسي للدولة مع محو الحريات المدنية والسياسية، إضافة إلى تكريس التحايل على الدمقرطة وعدم شفافية الدولة التي تتسم أكثر فأكثر بفسادها الرهيب، كما أن الدولة الطائفية دولة داخل الدولة؛ إذ ترعى التمييز والتراتبية الطبقية التي تتغلغل في المجتمع بسببها، فتصبغ الدولة بهويتها الأسوأ مؤازرة لكل من ينتمي لطائفة الحاكمين، وبالتالي تقود المواطنين إلى السلوك الاجتماعي والسياسي المأزوم على أساس طائفي خارج نطاق كل الأسس الوطنية التي تحميها الدولة المدنية مثلاً، وبالتأكيد يزيد الطين بلة حين لا تكون هذه الدولة مع خيارات الاعتدال والوسطية، ومن أمراضها للأسف الكراهية والتطرف والاضطهاد والفساد وإنكار التنوع وتجيير الدولة وتفرد سلالة أو جماعة معينة دون غيرها بالسلطة.. إلخ.