مقالات التغيير الدموي ابحث في اسم الكاتب تاريخ النشر: 23/06/2014 يحفل التاريخ البشري بحركات التحرر ضد الاستعمار التي تطالب بالاستقلال وبالثورات ضد الأنظمة المستبدة التي تطالب بالحرية والكرامة، وفي الحالتين تحشد الشعوب طاقاتها وقدراتها فتتوحد تحت شعار واحد يجمع كل أطيافها الدينية والاجتماعية والسياسية . وكان من الطبيعي أن يحدث خلاف بين هذه الأطياف والمكونات بعد الحصول على الاستقلال أو الحرية، لكنه لا يدوم طويلاً، وغالباً ما تستقر الأمور، ولكن اللاطبيعي أن يحدث الخلاف بين المكونات الطامحة للاستقلال والحرية ولم تحقق أهدافها بعد، فتتقاتل في ظل وجود المستعمر والمستبد فتتراجع قوتها وتنكسر شوكتها، فيجد الاستعمار فجوة للتسلل منها، ويجد الدكتاتور فرصته الذهبية، فينقض كل منهما على غريمه وقد يجهز الاستعمار على حرب التحرير في مهدها، وقد يقضي الدكتاتور على الحراك الشعبي في بدايته، فتغص السجون ثانية بالمعتقلين وتمتلئ المقابر بالشهداء . إن المكوّنات المنتفضة على الأنظمة في الدول التي شهدت (ربيعاً عربياً) وقعت في مصيدة الجمع بين الحالتين، حيث اعتبرت الأنظمة التي ثارت ضدها استبدادية في البداية، ثم ما لبثت أن بدأت تتعامل معها كقوات احتلال، فغاب التحرك السلمي ضد المستبد وحلّت البندقية ضد المحتل، وتحوّل الصراع بين (المعارضة والنظام) إلى صراع بين (الثوار والمحتل)، والمحتل هو النظام ذاته بجيشه ومؤسساته وجزء من الشعب الموالي، وهكذا وبسرعة شديدة تحولت جهود تغيير الأنظمة إلى حروب أهلية بكل معنى الكلمة، فانقسمت الشعوب وتشرذمت وبدأت تطحن نفسها بنفسها غير مبالية بحضارة أو بتاريخ أو بثروات أو مؤسسات أو خدمات . والحروب الأهلية حمقاء وجاهلة، لأن قادتها يستخدمون كل ما يشحن الناس ضد بعضهم بعضاً، فلا يترددون في توظيف الدين أو المذهب لإذكاء حدة الصراع . وفي الحالة العربية تم استخدام الدين والمذهب سريعاً لاستقطاب أكبر شريحة ممكنة، ولإعطاء الصراع طابعاً مقدّساً، فتتحول إلى حرب دينية بامتياز، وتزدهر فتاوى الكفر والخروج من الملة، وهذا ما يبيح القتل والذبح من دون الإحساس بتأنيب الضمير أو الشعور بالندم . وما يجعل الأمور تخرج عن السيطرة في شأن توظيف الدين والمذهب واللعب على الإيمان والكفر، انخراط مقاتلين من شعوب أخرى في الصراع، وبذلك يخرج الصراع عن كونه بين مقاوم ومحتل أو بين ثائر ونظام مستبد، إلى صراع لعين أثبت التاريخ أن لا منتصر فيه، ورغم ذلك، فإن المتحاربين الآن في بعض الأقطار العربية يغضون الطرف عن نتائج الحروب الأهلية، التي عصفت بكثير من الدول العربية والأجنبية في السابق، ويخوضون الحرب بهمجية نادرة غير مدركين أنه من المستحيل خلق مجتمع بنسخة واحدة، أي من الصعوبة بمكان القضاء تماماً على أتباع دين أو مذهب معين، ورغم ذلك يستمرون في الاقتتال بذرائع شتى . إن ما يزيد الأمر سوءاً هو ركوب فئة من المنتفعين موجة الثورات وحركات التغيير، وهي فئة انتهازية مستفيدة تركض وراء مصالحها الخاصة، ولا تتردد مطلقاً في التحالف مع أعداء الشعوب والأديان لتحقيق المكتسبات، وحين ينتهي الصراع تختفي فجأة من البلاد، تحمل ثرواتها وتغادر لتتمتع بما تبقى لها من دون النظر إلى الخلف، ومن دون إحساس بالخراب الذي جلبته لبلادها . وهذا ما يحدث في (الثورات العربية) ضد (الأنظمة الدكتاتورية الفاسدة والكافرة) . وعودة على بدء، فالتاريخ يقول إن المستعمر لم يخرج من مكان إلا بقوة السلاح، وعن طريق حروب التحرير الصادقة والمخلصة، والحالات التي خرج منها المستعمر دون استخدام السلاح نادرة جداً، وقد تكون ثورة المهاتما غاندي في تحرير الهند خير مثال على ذلك، لكن غاندي لم يتكرر في التاريخ فيما بعد، لكن وفي الجانب الآخر، رأينا ثورات غيرت أنظمة مستبدة من دون اللجوء إلى العنف والتدمير، وكان يكفي للشعب اليوغسلافي أن يعتصم في الساحات الكبرى في عصيان مدني كبير حتى يتغير النظام، وكان يكفي أن يقوم الثوريون في ألمانيا بهدم جدار برلين لينتهي عصر الانقسام، وكذلك في تونس، التي شهدت ثورة بيضاء أطاحت الرئيس زين العابدين بن علي، وكذلك ما حدث في مصر أيضاً حين أطاحت ثورة 25 يناير الرئيس حسني مبارك، ولكن علينا الانتباه إلى نقطة مهمة، وهي تدخل الجيش إلى جانب الشعب، وهو ما سهّل نجاح عملية التغيير السلمي في البلدين، أما ما حدث في ليبيا وسوريا ولا يزال، وما يحدث أيضاً في العراق ولا يزال، فهو يقدم نموذجاً للثوار الذي حوّلوا الأنظمة من مستبدة إلى محتلة، ولهذا انزلقت هذه البلدان إلى حروب أهلية طاحنة، تغذيها النعرات المذهبية والعقائدية والتدخلات الخارجية، فمن يعتقد أن الصراع الآن في سورياوالعراق هو بين نظامين مستبدين وبين ثوار وأحرار يكون قد جانبه الصواب، لأن ما يحدث هو حرب طائفية بامتياز لا تقتصر على الشعبين العراقي والسوري، وإنما يشترك فيها مؤيدو كل طرف إقليمياً وعالمياً، ولهذا، فإن الصراع مؤهل للاستمرار والإطالة، وربما إلى التمدّد، أما في ليبيا، فالصراع تحول إلى صراع أصحاب نفوذ، يغذيه أصحاب المصالح الليبية والإقليمية وشركات ما وراء البحار والتجار والتنظيمات المتطرفة والراغبون في الاستقلال وإقامة دويلات أو خلافات أو قل ما شئت من التفرد في السلطة أو (التسلط)، لا فرق، على مساحة جغرافية محدّدة . لقد أسهمت دول وأحلاف قوية في إسقاط رأس النظام في ليبيا، وكذلك الأمر في العراق، ويجري العمل على إسقاط رأس النظام في سوريا، وهذه الدول والأحلاف العالمية تمتلك من القدرات العسكرية والتكنولوجية والتجسسية ما يمكنها القضاء على رأس النظام من دون إراقة هذا الكم الهائل من الدماء ومن دون تخريب مكونات الدولة وتحطيم بناها التحتية، وتهجير الناس من بيوتهم، فعملية القضاء على العقيد معمر القذافي، ما كان لها أن تمر على ما بين 50 و 80 ألف ضحية من الشعب الليبي، وتحطيم الجيش وشقّه، وإشاعة الفوضى وتقسيم البلاد، وعملية القضاء على صدام حسين ما كان يجب أن تمر على مئات الآلاف وملايين المهجرين وتخريب العراق بأكمله وتقسيمه في مرحلة لاحقة، والأساليب تعرفها أجهزة الاستخبارات أكثر، وكذلك الأمر في سوريا، رغم أن وضع هذا البلد يختلف بعض الشيء عن العراق وليبيا، وقد أثبتت الأحداث أن الهدف من العمليات في ليبيا والعراق كان بهدف إسقاط رأس النظام، والدليل على هذا الكلام انسحاب القوات الأمريكية من العراق بعد إطاحة صدام حسين، وتوقف طائرات الناتو عن قصف الجيش الليبي، وتوقف الغرب عن إطلاق أي تصريح بشأن ليبيا بعد سقوط القذافي، وتُرك البلدان لمصيريهما المحزنين، فشعارات الديمقراطية والحريات التي استخدمت لإطاحة نظام القذافي (المستبد والدكتاتور)، حلّت محلّها شعارات التطرف والتخريب والفوضى، وشعارات تحرير الشعب العراقي من (النظام المستبد) الذي اتهم بعلاقاته مع تنظيم القاعدة، حلت محلها شعارات التنظيم ومقاتليه وأنصاره، فهل ارتكب الغرب في تاريخه عمليات تغيير أسوأ مما قام به؟ وهل نتجت عن سوء تقدير أم عن تعمّد سابق تقرير؟ الأيام المقبلة ستجيب بوضوح شديد عن هذا التساؤل . د . عبدالله السويجي الخليج الامارتية