القرارات التي يمكن وصفها ب "التاريخية" التي أصدرها الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي نهاية الأسبوع الماضي، وقضت بتوحيد مؤسسة الجيش التي تعرضت للانقسام في فترة الثورة الشعبية العام الماضي وإلى "الخطف" خلال الأعوام التي ميزت حكم الرئيس السابق علي عبدالله صالح، وضعت اليمن في الطريق الآمن نحو إعادة الاستقرار المفقود بفعل الاحتجاجات المطالبة بإسقاط النظام ورحيل الرئيس السابق وجميع من عمل معه في المؤسسة العسكرية والأمنية، وبخاصة ممن هم من أقاربه على مدى أكثر من ثلاثة عقود . مثلت القرارات العسكرية التي أعلنها الرئيس عبدربه منصور هادي مفاجأة غير سارة لأنصار وموالي الرئيس السابق وأعوانه، الذين كانوا يرون في بقاء جزء كبير من المؤسسة العسكرية الضاربة تحت أيديهم فرصة لاستمرارهم في الحكم حتى وإن كان من الباب الخلفي . صحيح أن الكثير منهم لم يعلن اعتراضه على القرارات الأخيرة، كما حدث مع أول قرارات جادة صدرت في هذا المجال في شهر إبريل/ نيسان من العام الجاري عندما امتنع الأخ غير الشقيق للرئيس صالح، محمد صالح الأحمر عن تسليم قيادة القوة الجوية، قبل أن يخضع في نهاية الأمر بعد تهديدات من مجلس الأمن الدولي بفرض عقوبات صارمة ضده وأسرة صالح، إلا أن القرارات شكلت صدمة للكثيرين في أوساط المناصرين والمؤيدين لمعسكر الرئيس السابق، وهي صدمة تعكس في الحقيقة عدم رضا الأطراف التي تم استهدافها بالقرارات العسكرية الأخيرة، التي ألغى هادي بموجبها التشكيلات العسكرية التي كانت تقع تحت نفوذها، بخاصة قوات الحرس الجمهوري، والقوات الخاصة وقوات مكافحة الإرهاب، وهي قوات يصل قوامها نحو ثلثي الجيش، وتمتلك تسليحاً ضخماً . التمهيد لاتخاذ هذه القرارات بدأ به الرئيس عبدربه منصور هادي منذ عدة أشهر، فقد استوعب التعقيدات التي واجهها عند إصداره القرارات العسكرية في شهر إبريل/ نيسان الماضي، فلجأ إلى تكتيك آخر تمثل في "جس نبض" الأطراف العسكرية كافة وتقبلها لأي تغيير وشيك، مع دراسة البدائل للقادة المستبعدين، رافق ذلك دعم دولي وإقليمي كبير، وهو ما حصل عليه هادي في الاحتفالية الكبيرة التي حصل عليها عند عقد تجمع دولي ضخم في العاصمة صنعاء بمناسبة مرور عام على توقيع المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، وحضر فيها الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون والأمين العام لدول مجلس التعاون الخليجي الدكتور عبداللطيف الزياني، إضافة إلى سفراء الدول العشر الراعية للمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية . في الاحتفالية الضخمة وغير المعتادة، حصل الرئيس هادي على دفعة كبيرة من الدعم الإقليمي والدولي، وكان الكثير من المراقبين يترقبون أن يصدر هادي في أثناء تلك الأجواء القرارات العسكرية الكبيرة التي ينتظرها اليمنيون بفارغ الصبر منذ بداية توليه مقاليد السلطة في البلاد في شهر فبراير/ شباط الماضي، إلا أنه آثر تأجيل ذلك حتى لا يقال إن قراراته صدرت بفعل دعم خارجي وليس قراراً محلياً . كان الجميع يدرك أن إصدار القرارات الكبيرة والمهمة مسألة وقت ليس إلا، فقد كان الرئيس السابق ومن تبقى من أركان حكمه يدركون أن "السيف على الرقاب" وأن أية مقاومة أو ممانعة في قبول قرارات كهذه من شأنها أن تحملهم المسؤولية في عرقلة المبادرة الخليجية، ليس فقط أمام الجهات الدولية، بل أيضاً أمام الرأي العام الداخلي، الذي بدأ يتحمس لاتخاذ أي قرار ضد أي شخص أو جماعة يعمل على عرقلة بنود التسوية المقرة بموجب المبادرة الخليجية . بعد إصدار القرارات "التاريخية" لم يجد معسكر الرئيس السابق علي عبدالله صالح من مفر إلا القبول بها، كان ذلك واضحاً من خلال موقف نجل صالح، العميد أحمد علي، الذي كان يتولى قيادة أهم ثلاث قوات عسكرية لا تخضع عملياً لوزير الدفاع، وهي قوات الحرس الجمهوري والقوات الخاصة وقوات مكافحة الإرهاب، فقد أعلن "صالح الصغير" قبوله بالقرارات وأكد من مكان وجوده في إيطاليا إنه يقبل بأية قرارات ومستعد لتنفيذها مادامت ستؤدي في نهاية الأمر إلى استقرار البلد، وهو موقف كان سبقه إليه قائد قوات الفرقة الأولى مدرع والمنطقة الشمالية الغربية اللواء الركن علي محسن، الذي بادر إلى إعلان موقف مؤيد سريع من القرارات، ومثلهما فعل أركان حرب قوات الأمن المركزي، العميد يحيى محمد عبدالله صالح، نجل شقيق الرئيس السابق، الذي كان يعتبر إلى أشهر قليلة الرجل الأول في مؤسسة الأمن المركزي . واستبق هادي قراراته المهمة بسحب كتيبة الصواريخ التي كانت تقع تحت إمرة نجل صالح، وإبقائها تحت قيادته، ونقلها إلى مخازن دار الرئاسة، وهي القوة التي كانت تعتبر الأخطر على التسوية السياسية، إذ كانت تحيط بالعاصمة صنعاء من الجوانب كافة، وتهدد بإفشال العملية السياسية، بخاصة وأن كثيراً من القوى السياسية كانت ترفض المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني طالما بقيت هذه الأسلحة وغيرها في أيدي أقرباء صالح ومواليه . انفراج سياسي لا يمكن إغفال الانعكاسات الكبيرة للقرارات العسكرية المتخذة على الجانب السياسي، فمن المؤكد أن عملية توحيد الجيش ستكون لها انعكاسات إيجابية بلا شك على العملية السياسية برمتها في المستقبل القريب والبعيد، وبخاصة في ظل رهن العديد من القوى السياسية الفاعلة مشاركتها في مؤتمر الحوار الوطني بإبعاد مؤسستي الجيش من ساحة الصراع السياسي وإبقائها خارج قبضة أقارب صالح وأنصاره . بعد القرارات تنفس الكثير من القوى السياسية الصعداء، وبدأت عجلة التحضير للمشاركة في مؤتمر الحوار الوطني تأخذ طابعاً جدياً أكبر، بعد إزالة أهم العقبات في طريق عقد مؤتمر الحوار، فقد كانت هذه القوى السياسية ترفض المشاركة في الحوار والسلاح مصوب على رؤوس ممثليها في المؤتمر، وبلا شك فإن الحوار من دون تهديد بالسلاح ستكون له نتائج إيجابية أكبر وسيسعى الجميع إلى بحث كل ما له علاقة بمستقبل اليمن من دون خوف من أحد . الانفراج السياسي سيفتح بلا شك الباب أمام تسوية تاريخية في اليمن، التسوية التي افتقدها اليمنيون طوال مراحل صراعاتهم الطويلة، سواء في عهد التشطير أو في عهد دولة الوحدة، فقد كانت القوة العسكرية تحسم على الدوام الصراعات السياسية فتأتي بقوة إلى السلطة وتخرج أخرى منها، وتبقى الدائرة تدور من دون وضع حلول جذرية لمشاكل البلد . وقد فشل طرفا الوحدة التي تحققت العام 1990 في توحيد مؤسستي الجيش والأمن القادمتين من حقب تشطيرية، وراكما الأخطاء تلو الأخطاء إلى أن انفجرت الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد العام ،1994 وكانت محصلة طبيعية للمعالجات الخاطئة التي اتخذتها دولة الوحدة عند ولادتها، فلو كانت عملية توحيد الجيش تمت على أسس وطنية بعد الوحدة لما انفجرت الحرب ولما تفرد صالح بالبلد وأصبح الحاكم الوحيد والمطلق مستبعداً خصومه من الشراكة في الحكم طوال مرحلة ما بعد الحرب وحتى الاحتجاجات العام الماضي، ولو لا اندلاع هذه الاحتجاجات لظل على رأس السلطة "قالعاً عداد الرئاسة"، كما صرح بذلك علناً أحد أبرز مساعديه، وهو سلطان البركاني، رئيس الكتلة البرلمانية لحزب المؤتمر الشعبي الذي يتولى صالح قيادته . الحراك الجنوبي والحوثيون رغم القرارات المهمة التي أصدرها الرئيس هادي ودورها في تحريك الملف السياسي في الطريق إلى مؤتمر الحوار الوطني، الذي تأجل عقده من دون إبداء أسباب، وإن كانت معروفة للجميع، إلا أن هذه القرارات يبدو أنها غير كافية لإقناع الأطراف السياسية في الجنوب بالمشاركة في مؤتمر الحوار، إذ لاتزال الساحة الجنوبية مليئة بالمواقف المتناقضة من قضية المشاركة في الحوار من عدمها . وعلى الرغم من أن بعض المواقف تبدو مشجعة إلى حد ما في ما يتصل بمشاركة قوى من الحراك الجنوبي في الحوار الوطني، وبخاصة بعد انعقاد المؤتمر الوطني لشعب الجنوب برئاسة القيادي السابق في الحزب الاشتراكي محمد علي أحمد، إلا أن فصيل نائب الرئيس السابق علي سالم البيض لايزال متمترساً خلف مواقفه المعلنة المتمثلة في رفض المشاركة في الحوار إلا وفق قاعدة "تفاوض على أساس دولتين"، بمعنى التمسك بخيار ما صار يعرف ب "فك الارتباط"، وهو ما يعني عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل تحقيق دولة الوحدة العام،1990 أي دولتي الشمال والجنوب . ويبدو أن هذه العقبة تشكل صداعاً للأطراف كافة، سواء في الداخل أو في الخارج، وبخاصة أن بعض الأطراف الدولية دخل على خط المشكلة من خلال حوارات جرت بين مبعوث الأممالمتحدة إلى اليمن جمال بن عمر، الذي أجرى لقاءات مع قادة الحراك الجنوبي في كل من عدن والقاهرة، فيما عقد الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي الدكتور عبداللطيف الزياني لقاءات مماثلة الأسبوع الماضي مع عدد من القادة الجنوبيين في العاصمة السعودية الرياض، وقد هدفت كل هذه التحركات إلى الضغط على القادة الجنوبيين لإقناعهم بالمشاركة في مؤتمر الحوار الوطني، والتأكيد على أن أي حل لمشكلة اليمن يجب أن ينطلق من قاعدة وحدة البلد وأمنه واستقراره . وهناك إشكالية أخرى بدأت تبرز في الأيام التي تلت قرارات هادي، وتمثلت في مواقف جماعة الحوثي التي يبدو أنها رافضة لهذه القرارات، حيث تعتبر أن الأمريكيين يقفون وراءها، وهو ما يجعل مشاركة الجماعة في مؤتمر الحوار محل شك، حيث أعلنت جماعة الحوثيين في بيان لها صدر بعد أيام قليلة من قرارات هادي أن هذه القرارات تأتي "في سياق النفوذ الأمريكي"، معتبرة تسليم قائد الحرس الجمهوري العميد الركن أحمد علي عبدالله صالح، منظومة صواريخ "سكود" إلى وزارة الدفاع "سحباً ومصادرة للصواريخ من يد الشعب" . وهاجمت الجماعة إعادة هيكلة الجيش واعتبرت أن هذه الهيكلة "ليست سوى عملية أمريكية لتطويع الجيش أكثر، وإخضاعه للنفوذ الأمريكي واستخدامه لمصلحتهم، ولم نرَ أن أحداً من قادة الجيش الذين سفكوا دماء الشعب تم تحييده وتخليص الشعب منه في هذه الهيكلة"، في إشارة إلى قائد الفرقة الأولى مدرع اللواء الركن علي محسن الأحمر، الذي تعتبره الجماعة مسؤولاً عن الحروب التي خاضها نظام صالح ضد أنصارها في صعدة خلال السنوات الماضية . ما بعد القرارات بعد إصدار القرارات الجمهورية الخاصة بتوحيد مؤسسة الجيش، يجب الشروع في اتخاذ إجراءات مماثلة لتوحيد قوات الأمن والشرطة، وهي خطوة لا تقل أهمية عن توحيد مؤسسة الجيش، إضافة إلى قرارات تعمل على تهيئة الأجواء لانعقاد مؤتمر الحوار الوطني، ومن أبرز هذه القرارات تقديم الاعتذار عن الحروب التي خاضها نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح ضد الجنوب وصعدة ومعالجة الغبن والظلم اللذين لحقا بالمؤسستين العسكرية والأمنية الجنوبيتين بعد الحرب الأهلية العام ،1994 وتعويض من نهبت أراضيهم وتعرضوا للتشريد من جراء النفوذ الذي مارسه أعوان النظام السابق، حتى يمهد ذلك لأرضية مناسبة لانعقاد مؤتمر الحوار . كما أن على الطرفين المشاركين في حكومة الوفاق الوطني، وهما حزب المؤتمر الشعبي العام، الذي يتزعمه الرئيس السابق وحلفاؤه واللقاء المشترك وشركاؤه، البحث عن صيغة جديدة من التعاون والشراكة تعمل على تهدئة الأوضاع المحتقنة في الشارع، من خلال رفع مظاهر الأزمة الباقية في شوارع وميادين العاصمة صنعاء وبقية مناطق البلاد، إضافة إلى عودة القوات العسكرية المنتشرة في الشوارع إلى ثكناتها، حتى يشعر المواطن أن الأوضاع قد عادت إلى طبيعتها . على جميع الأطراف التأكد من أن أي خروج على الشرعية الدستورية للبلاد، المتمثلة بالرئيس عبدربه منصور هادي، ستكون نتائجه كارثية على البلد بأكمله، وبخاصة في ظل الاصطفاف السياسي والعسكري والقبلي وحتى الديني الذي يميز الوضع القائم في اليمن اليوم، وعلى أنصار ومؤيدي النظام السابق إدراك حقيقة أن الأوضاع لا يمكن أن تعود إلى الوراء، مهما كانت الظروف، فالتغيير صار ضرورة لمستقبل اليمن، وهو ما أكده أكثر من مرة الرئيس هادي . من هنا تبدو الترتيبات لتنفيذ القرارات الجمهورية الحالية والمقبلة ضرورية جداً لإحداث اختراق جدي في الأوضاع الحالية، اختراق يمنح اليمنيين الأمل في أن يكسبوا الرهان على إمكانياتهم بمساعدة خارجية، سواء كانت إقليمية أو دولية، في الخروج إلى بر الأمان من خلال حل يحفظ استقرار ووحدة البلاد، عبر بوابة شكل جديد من أشكال نظام الحكم، بعد أن تأكد لهم بعد خمسين عاماً أن الأنظمة الجمهورية التي تعاقبت على حكم اليمن بشطريه قبل الوحدة العام 1990 وما بعد دولة الوحدة . وعلى اليمنيين الاقتناع بأن الوسيلة الوحيدة التي ستصل بهم إلى هذه الغاية هي مؤتمر الحوار الوطني، الذي من المقرر أن يصدر الرئيس هادي خلال الفترة القليلة المقبلة قراراً جمهورياً يحدد موعده ومكان انعقاده ليدشن بذلك اليمنيون حقبة جديدة من تأريخهم ويرمون بحقبة وراء ظهورهم، لم تورث لهم سوى المآسي والكوارث .